الفضاء الروائي في الرواية المغربية.. البناء على مفهوم التقاطب الذي أدرجته الشعرية في بنائها النظري



الفضاء الروائي في الرواية المغربية:

يبني الباحث مقاربته للفضاء الروائي في الرواية المغربية على (مفهوم التقاطب) الذي أدرجته الشعرية في بنائها النظري، وجعلت منه الأدلة الرئيسية للبحث في تشكلات المكان.

تشكيل الفضاء الروائي:

وإن الأخذ بمبدأ التقاطب كمفهوم نقدي، وكأداة إجرائية بالمعنى الذي أعطته له الشعرية الحديثة (لوتمان، باشلار، ميتيران... الخ) يمثل المظهر الملموس الذي يصل إلى حدّه الأقصى من الوضوح المفهومي والنقدي، عندما يسمح بوضع اليد على ما هو جوهري في تشكيل الفضاء الروائي.

يقول: (لقد نظرنا إلى الأماكن والفضاءات التي تزخر بها الرواية المغربية فوجدناها تتوزع إلى فئات ذات تنوّع كبير من حيث الوظيفة والدلالة، وأمكننا أن نميّز مبدئياً بين أمكنة الإقامة وأمكنة الانتقال، لكي نحصل على ثنائية ضدية أولى سيتلوها اكتشاف ثنائيات أو تقاطبات أخرى تابعة أو ملحقة ص 40).

الإجهاز على الدلالة الكامنة:

في (أماكن الإقامة الاختيارية) ركّز الباحث على (فضاء البيوت)، آخذاً بدعوة باشلار إلى ضرورة الإلمام بجميع أجزاء البيت والدلالات المرتبطة بها، لأن الاقتصار على جانب واحد، مهما بلغ من الفاعلية والخصوبة، يظل حائلاً دون رؤية الجوانب الأخرى التي تشكل الصورة المتكاملة للفضاء الروائي، وتعطيه انسجامه وأسباب انبنائه.

وهكذا فمن الخطأ النظر إلى البيت كركام من الجدران والأثاث يمكن تطويقه بالوصف الموضوعي والانتهاء من أمره بالتركيز على مظهره الخارجي وصفاته الملموسة، لأن هذه الرؤية ستنتهي إلى الإجهاز على الدلالة الكامنة فيه وتفرغه من كل محتوى: فالبيوت والمنازل تشكل نموذجاً ملائماً لدراسة قيم الألفة ومظاهر الحياة الداخلية التي تعيشها الشخصيات، وذلك لأن بيت الإنسان هو امتداد لـه، كما يقول (بليك). فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان، فالبيوت تعبّر عن أصحابها.

الرواية الجديدة أو الروائية الشيئية:

إن التأثير متبادل بين الشخصية والمكان الذي تقيم فيه، وإن الفضاء الروائي يمكنه أن يكشف لنا عن الحياة اللا شعورية التي تعيشها الشخصية.
ولا شيء في البيت يمكنه أن يكون ذا دلالة من دون ربطه بالإنسان الذي يعيش فيه.

وهذا يخالف ما جاء به روّاد مدرسة (الرواية الجديدة، أو الروائية الشيئية) الذين أحلّوا الأشياء محل الإنسان في الرواية، على الرغم من قولهم: (إن للأشياء تاريخاً مرتبطاً بتاريخ الأشخاص –ميشيل بوتور- بحوث في الرواية الجديدة- تر: فريد أنطونيوس- عويدات- بيروت1971 ص 55)، (وإن كل حائط وكل قطعة أثاث في الدار كانت بديلاً للشخصية التي تسكن هذه الدار -آلان روب غرييه- نحو رواية جديدة- تر: مصطفى إبراهيم- دار المعارف بمصر-ص130).

تصوير المكان في الخطاب الروائي المغربي:

أما (شعرية المكان) فإنها تسلّم بتأثير الوجود الإنساني على تشكيل الفضاء الروائي، وتلّح على أهمية رؤية الإنسان للمكان الذي يؤهله.

وعندما ينظر الباحث في الخطاب الروائي المغربي يجد نصوصاً كثيرة تُعنى بتصوير فضاء البيت وتوسعه وصفاً وتشريحاً، ولكن دون أن تربطه بقيم الإلفة الإنسانية، سواء في ذلك البيت الشعبي أو البيوت الفاخرة.

أماكن الإقامة الإجبارية:

وفي (أماكن الإقامة الإجبارية) يعالج الباحث (فضاء السجن) بوصفه عالماً مفارقاً لعالم الحرية خارج الأسوار، وهو يشكل مادة خصبة للروائيين، ونقطة انتقال من الخارج إلى الداخل، ومن العالم إلى الذات بالنسبة للنزيل، بما يتضمنه ذلك الانتقال من تحوّل في العادات والقيم وإثقال كاهله بالإلزامات والمحظورات.

فما أن تطأ قدما النزيل عتبة السجن، مخلفاً وراءه عالم الحرية حتى تبدأ سلسلة العذابات التي لا تنتهي إلا بالإفراج عنه.
وضمن فضاءات السجن عالج الباحث فضاءات أخرى متعلقة به مثل: فضاء الزنزانة، وفضاء الفسحة، وفضاء المزار.

أماكن الانتقال العمومية:

وفي (أماكن الانتقال العمومية) عالج الباحث (فضاء الأحياء) والشوارع، وتمشياً مع خطته المنهجية في اختياره (التقاطب) فقد شرع في عرض صفات الحي الشعبي بوصفه فضاءً اعتيادياً للحياة اليومية للمواطنين، وذلك تمهيداً للبحث في تمفصلاته الطوبوغرافية والدلالية.
وضمن فضاء الأحياء عالج الباحث فضاءات أخرى متعلقة به، مثل: فضاء الحي الشعبي، وفضاء الحي الراقي.

أماكن الانتقال الخصوصية:

وفي (أماكن الانتقال الخصوصية) عالج الباحث (فضاء المقهى) كمكان انتقال خصوصي، بتأطير لحظات العطالة والممارسة المشبوهة التي تنغمس فيها الشخصيات الروائية كلما وجدت نفسها على هامش الحياة الاجتماعية.

وأبرز الدلالات تحمل طابعاً سلبياً يشي بما يعانيه الفرد من ضياع وتهميش.
ومما يؤكد ذلك أن فضاء المقهى هو مسرح للعديد من الممارسات المنحرفة، سواء كانت دعارة أو قماراً أو تجارة مخدرات أو حتى مجرد عطالة مزمنة.

وتتكرر هذه الصورة السلبية لفضاء المقهى في أكثر من رواية حتى توشك أن تصبح العصب الرئيسي الذي يحكم دلالته ويلتحم بها.