تاريخ صبراتة.. الاكتساح الحضاري الفينيقي لسواحل حوض البحر المتوسط ووجود اثار رومانية بالقرب من الجوش



ذكر بلينيوس الاكبر plinius في كتابه (التاريخ الطبيعي) وكذلك بطليموس في كتابه (الجغرافيا) ان اسم صبراته اطلق لتحديد منطقتين الاولى بالداخل وكانت تدفع الضرائب للثانية الساحلية, والمصادر التاريخية تذكر وجود اثار رومانية بالقرب من الجوش، وهذا دليل على سابق وجود مدينة هامة والمصادر التاريخية نفسها تسمى هذه المدينة صابرية Sabria وهو يشبه اسم المدينة الساحلية صبراته التي نتحدث عنها هنا.
واذا رجعنا مع التاريخ نجد ان بداية تأسيس المدينة مرتبطة بموجة الاكتساح الحضاري الفينيقي لسواحل حوض البحر المتوسط، وربما يكون من الضروري ان نشير في هذا المقام الى ان الفينيقيين هؤلاء هم شعب سامٍ عروبي كان يتركز اساسا ببلاد الشام وتحديدا جبال لبنان الحالية وقد مهروا في الملاحة البحرية والتجارة، وكانوا شعبا وديعا مسالما، وهم من بنا صور وصيدا وغيرهما من حواضر بلاد الشام، كما اسسوا مراكز حضرية في جزر المتوسط، ووصلوا اسبانيا وبريطانيا وكانوا يمرون بمحاذاة شواطىء شمال افريقيا ليتمكنوا من اللجوء اليها في حالة هبوب العواصف العاتية، ومع مرور الوقت اسسوا عددا كبيرا من المدن على هذه الشواطىء الافريقية الشمالية كانت أبرزها قرطاج والمدن الطرابلسية، وجزيرة قرقنة بتونس، وقابس، وحضرموت (سوسة بتونس الان)، وهيبو رحبيس (عنابة) وغيرها.
وهكذا نلاحظ ان الفينيقيين لم يؤسسوا هذه المحطات فحسب بل انهم اقاموا العديد منها وكان غالبها مجرد محطات صغيرة كانت تقام على الشاطىء في كل 30 كلم تقريبا وذلك خوفا من الابتعاد عن السواحل ولكي يستريحوا من تعب السفر ويتزودوا بالطعام والماء ويستطيعوا اصلاح سفنهم ان اصابها عطل، وقد لعبت تلك المحطات التي أنشئت لأغراض سوقية وتجارية, دور الوطن البديل الذي هاجرت اليه موجات من الفينيقيين بعدما اشتد ضغط الآشوريين في وطنهم الاصلي لبنان حيث قام مهاجرون من صيدا بالاستيطان نهائيا بالاقليم الطرابلسي ولحق بهم اخرون من صور.
ولكن الكتاب القدماء يختلفون في ان هذه المدن الفينيقية انشأتها مدينة صور وأنها التي انشأتها مدينة صيدا. ويخبرنا الشاعر اللاتيني سيليوس ايتاليكوس ان مدينة صور ومهاجريها هم من أنشأوا مدينتي لبدة وصبراته ولكن من قام بانشاء مدينة اويا (طرابلس) هم مهاجرون من صقلية من أصل فينيقي. اما المؤرخ سالوستيوس كرسبيوس 86/34 ق.م والذي كان ينتمي لاسرة من العامة وشغل منصب (بروقنصل) لافريقيا الجديدة في عهد قيصر فقد قال ان مهاجرين من صيدا هم من أنشأ لبدة، وعند مقارنتنا لرأي الكاتبين يتبين ان الكتاب اللاتين كانوا يخلطون في كتاباتهم بين مدينتي صيدا وصور وفي كلتا الحالتين فان المقصود هو ان صبراته والمدن الطرابلسية قد اسهما واستقر بهما الفينيقيون اولا.
وعلى اية حال فان مدينة صبراته لم تبلغ اوج ازدهارها الا بعدما بسطت عليها قرطاجة سيطرتها اثر تدخلها لطرد اليونان الذين حاولوا بقيادة دوريوس بناء مستوطنة باقليم غرب ليبيا عند مصب وادي كنبس (وادي كعام), وقد شارك الى جانب الفينيقيين في الدفاع عن المنطقة, وظلت المدينة قرطاجية مع نوع من الحكم الذاتي حتى تمكن الرومان من تدمير قرطاج واحراقها نهائيا في نهاية الحروب البونيقية 146 ق.م لينتهي بذلك حلم فينيقي جميل ـ كما تروي الاساطير ـ بدأته مؤسسة قرطاجة عليسة شقيقة الملك الصوري بجماليون.
اما على مستوى الحياة الروحية فقد كانت تسود صبراته الديانات الشرقية التي استقدمها الفينيقيون المتميزة بتعدد (الالهة) الاسطورية، وفي مقدمة تلك الالهة الالهة (تانيت بينبعل) التي هي في الاصل الالهة (اسطرطة) الهة القمر عند الفينيقيين بمدينة صور وكانت بمثابة الالهة (هيرا) زوجة الاله زيوس عند اليونان، وفي مقام الالهة (يونوسيليستس) زوجة الاله جوبيتر عند الرومان.