النقد اللغوي عند العرب لنعمة رحيم العزاوي وملاءمة طبيعة العمل الأدبي.. تنمية لغة الأدباء والنهوض بأساليبهم



قرن نعمة رحيم العزاوي (العراق) النقد باللغة في كتابه "النقد اللغوي عند العرب حتى نهاية القرن السابع الهجري"، على أن اللغة مادة الفن الأدبي، وأن نبوغ الأديب أو تفوقه يرتبط بطريقته في استخدام اللغة، والتعامل معها، و"معنى ذلك أن الموضوع الأول للنقد هو اللغة، لأن اللغة هي الحقيقة الأولى في الفنّ الأدبي"، "وأن كثيراً من موضوعات النقد وقضاياه يمكن أن تعالج من خلال اللغة، أو تكون اللغة الأساس الذي ينطلق منه الناقد في معالجة تلك الموضوعات".

رهن العزاوي النقد باستخدام اللغة بوصفها مجلس عبقرية الأديب، وقد أدرك النقاد العرب هذه الحقيقة، وفطنوا إلى أهمية اللغة في العمل الأدبي، وأولوها اهتمامهم، وصرفوا إليها عنايتهم، "حتى صار الناقد منهم، كابن الأثير مثلاً، يدل على غيره، بما يستكشف من دقائق اللغة، وأسرار الألفاظ والتراكيب"، ومثّلت اللغة في الأدب والنقد، ماهية الشعر، وغايات الأدب، وصفات الناقد، والذوق، ووحدة الموضوع، والطبقات، والخصومة، والخيال، وأجناس الأدب، والطبع، والتكلف، والصدق، والكذب، والموازنات، والسرقات...الخ.

أفاد العزاوي أن المنهج اللغوي هو المنهج الملائم لطبيعة العمل الأدبي، القادر على استكشاف ملامح الاستخدام الفني للغة، وأوضح أن العرب عرفوا المنهج اللغوي في النقد، ودرس العوامل المؤثرة في النقد اللغوي مثل الرواية، والتطور اللغوي، والتعصب القديم، والخصومة، والإعجاز، وأورد المقاييس والنظرات التي أثارها هذا النقد.

درس ضروب المقاييس في النقد اللغوي، ومنها مقاييس الخطأ والصواب، ومقاييس الجودة والرداءة.
وأبان قيمة النقد اللغوي، وما له من أهمية وفوائد، وما عليه من مآخذ وعيوب، وما يثيره من قضايا ومشكلات، على أن اللغة تربط بين الفرد وغيره من أبناء الجماعة اللغوية، وهي وسيلة للتعبير والتفاهم وتبادل الآراء والأفكار، ورابطة للأعراف والطقوس والمقاييس الاجتماعية، وأساس الاستخدام الفني والمنهج النقدي بإبراز جمالية اللغة الأدبية في ضوء القواعد والأصول الفنية، ويتعالق المنهج الفني ومحوره النقدي مع المنهج اللغوي والتاريخي والنفسي، و"ما ينفع الناقد، وهو يواجه اللغة، ويجعلها مدار نقده، هو علم اللغة ونظرياتها، ومناهج درسها وفقهها، لأن من شأن هذه العلوم والنظريات أن تزيده علماً بلغة الأدب، وتجعله أبصر بأسرارها، وأقدر على استخراج طاقاتها التعبيرية".

أشاد العزاوي بدعوة محمد مندور (مصر) إلى المنهج اللغوي في درس والأدب ونقده، وطرائق شرحه، وبيان جدواه وأهميته في كتابيه "في الميزان الجديد" (1952)، و"النقد المنهجي عند العرب" (1956) وتعاضد معه الكثير من الباحثين والنقاد عناية بالمنهجيات التقليدية، وأولها النقد اللغوي الذي يعقد جانباً "من جوانب عناية العرب بلغتهم، ووسيلة من الوسائل التي اتخذوها لبيان سحرها، والحفاظ على سلامتها ونقائها.".

وقد انتشر النقد اللغوي في مرحلة مبكرة من العصر الجاهلي، وفي العصور التالية، وأساسه الصياغة والمعاني، ثم ازدهر هذا النقد في القرون الإسلامية، وكانت العوامل المؤثرة فيه هي الرواية (الاستقاء)، والتطور اللغوي من عصر لآخر، عند تدقيق اللحن، والإعراب، والثنائيات اللغوية، والتمازج اللغوي، والانحراف، واستعمال الألفاظ الأجنبية، والقواعد... الخ.

هدف المنهج اللغوي "إلى تنمية لغة الأدباء، والنهوض بأساليبهم، وإمدادهم بما يحسن ويجمل من الألفاظ والعبارات، مع تنبيههم على مناسبة كّل لفظ، والمقام الذي يقال فيه كلّ تعبير"، للتخفيف من الازدواج اللغوي أثناء التطور اللغوي في هذه الحقبة التاريخية أو تلك.

أثر التعصب القديم كثيراً في النقد اللغوي، وتمثلت المقاييس التي دفع إليها التعصب القديم في الغرابة والفخامة، ورفض اشتقاق ما يسمح به القياس، ورفض المعرب والدخيل، والتقيد بالعرف اللغوي.

وهناك أيضاً عامل الخصومة المؤثر على النقد اللغوي، ويفرز الخصومة الشخصية، والخصومة المذهبية، والاتهام باللحن والخطأ، والعداوة للأديب أو أدبه، وله مظاهر أولها من محاسبة الشاعر على ألفاظ وتراكيب غير متفق عليها، وثانيها التعليقات التي تتسم بالحدة والمبالغة، وثالثها الاختلاق والكذب على الشاعر أو الأديب.

غير أن الخصومة والدوافع كانت عاملاً من عوامل تنشيط النقد اللغوي في مجالات الدفاع عن طبيعة النقد اللغوي ومزاياه وتعبيراته عن الخصائص الثقافية.

اندغم الإعجاز كثيراً مع النقد اللغوي في منظوراته الإيجابية، من إعجاز القرآن الكريم، إلى إعجاز الأدب والثقافة، وتبدت قضايا اللفظ في الغرابة والسهولة، وموسيقى اللفظ والتركيب، والفروق بين المترادفات، وأتضح أن "الإعجاز" عامل في إثارة كثير من قضايا النقد اللغوي عند البحث عن الأسرار واستخلاص القوانين التي تقاس بها النصوص والأساليب.

درس العزاوي موضوعات النقد اللغوي ومقاييسه، وأولها مقاييس الخطأ والصواب كالتكفل ببيان سلامة العمل المنقود من الخطأ، ومطابقته للمألوف من قواعد اللغة، والمعهود من نظامه، والكشف عن مواطن الجودة والرداءة في ذلك العمل.

وتبدت المقاييس في الأدوات والظروف، وفي تغيير بنية الكلمة، وفي المثنى والجمع وفي الاشتقاق واستعمال الكلمات، وفي المصادر، وفي الندبة والاستغاثة، وفي الإعراب، وفي التعريف والتنكير والتعدي واللزوم.

أما مقاييس الجودة والرداءة فظهرت في المفردات من حيث تأليفها ووزنها طولاً وقصراً وحركات وخروجاً من وزن إلى وزن، وغرابتها، وعاميتها، وجزالتها وسهولتها ورقتها، وإيحاؤها وتخييلها، وأسماء الثمار والمواضع والأعلام، والتلاؤم بين اللفظ والمعنى، والدقة، والإفادة، والاشتراك، والتكرار، وموقع الكلمة، وأسماء الإشارة والموصول والضمائر، وكاف الخطاب، وحروف الصلات، والتصغير، والاصطلاحات.

كانت مقاييس جودة التراكيب ورداءتها مدروسة في الانسياب، والموسيقى والإيقاع، والوضوح والغموض، ووحدة النسج.
تجلت فوائد النقد اللغوي في حماية اللغة، وتهذيبها، وتنميتها بتوسيع قياسها والمقيس عليها وقبول المعرب والدخيل، إلى جانب رصن بعض الظواهر اللغوية كالغريب، والنوادر، والتطور اللغوي للمفردات، والمعرب والدخيل، والمولد، وتصحيح الخطأ، والإرشاد إلى الحسن والأحسن، والدفاع عن المنشيء، والتعجل في الحكم بالخطأ أو الرداءة، واختلاف النظرة إلى لغات القبائل، والتصحيف والتحريف، وجهل بعض النقاد بمراد الشاعر، وجهل بعض النقاد بالإعراب، والكشف عن أسرار التعبير الأدبي وخصوصيته.

اتصلت عيوب النقد اللغوي بالتزمت والجمود كالاحتكام إلى القديم والتقيد بالعرف اللغوي، وعدم التفريق بين الخطأ والتطور، والتمسك بالأفصح، وبالتعصب للمنشيء أو عليه، وبالفصل بين اللفظ والمعنى (الشكل والمضمون)، وبالجزئية في النص المنقود، لأن الأنسب هو "ضرورة مراعاة الكل وعدم الوقوف عند الجزء في عملية النقد والتقويم".

من الواضح أن النقد اللغوي لا يقتصر على اللغة وحدها، بل هو أساس النقد ومنهجيته.


0 تعليقات:

إرسال تعليق