"الشعر العربي الحديث": قراءة نقدية في كتاب أحمد المعداوي المجاطي، وتتبع مراحل التطور من الإحياء إلى الذاتية وصولاً إلى تجارب الغربة والحياة والموت والشكل الجديد

تطور الشعر العربي الحديث: قراءة في كتاب أحمد المعداوي المجاطي

يُقدم كتاب الأستاذ أحمد المعداوي المجاطي تحليلًا عميقًا ومُفصلاً للمراحل التحولية التي مرّ بها الشعر العربي الحديث منذ عصر النهضة. يُعتبر هذا العمل إضافة مهمة للمكتبة النقدية العربية، كونه يُكمل ويُعزز الفهم المقدم في المقررات الدراسية حول التجارب الشعرية الثلاث الكبرى: الشعر الإحيائي، الشعر الوجداني، والشعر الحر (أو شعر التفعيلة). يقسم المجاطي دراسته إلى أربعة فصول رئيسية، يُسلط كل منها الضوء على جانب محوري من جوانب هذا التطور.


1. التطور التدريجي في الشعر العربي الحديث: من الإحياء إلى الذات (الفصل الأول)

يُستهل المجاطي كتابه بتتبع البدايات الأولى للشعر العربي الحديث، مُركزًا على مرحلتين أساسيتين:
  • الشعر الإحيائي (البعث والإحياء): يُشير المجاطي إلى هذه المرحلة كمنطلق، حيث سعى الشعراء إلى إحياء مجد الشعر العربي القديم في عصوره الذهبية، والعودة إلى جزالة اللفظ وقوة المعنى والالتزام بالوزن والقافية التقليديين. كان الهدف الأساسي هو مواجهة الضعف الذي أصاب الشعر في العصور المتأخرة، وربطه بالنهضة الفكرية والسياسية.
  • الشعر الذاتي (الوجداني): ينتقل المجاطي بعد ذلك للتركيز بشكل أكبر على مرحلة الشعر الذاتي، التي مثّلت تحولًا نوعيًا في الرؤية الشعرية. هذه المرحلة، التي تُعرف أيضًا بالتيار الرومانسي، وضعت ذات الشاعر ومشاعره وتجاربه الشخصية في صميم العملية الإبداعية، خلافًا لتركيز الشعر الإحيائي على الموضوعات الخارجية والاجتماعية.

ويُبرز المعداوي في هذا السياق أهم المدارس التي جسدت هذا الاتجاه، مُبينًا خصوصية كل منها:

    • مدرسة الديوان (في مصر): ضمّت عباس محمود العقاد، عبد الرحمن شكري، وإبراهيم المازني. ركزت على الفكر، والصدق الشعوري، والوحدة العضوية للقصيدة، ورفضت المبالغة والتقليد الأعمى.
    • مدرسة أبولو (في مصر): تأسست على يد أحمد زكي أبو شادي. تميزت بالاهتمام بالطبيعة، والخيال، والتجريب في الأوزان والقوافي، مع ميل إلى الحزن والتشاؤم، والتأثر بالشعر الغربي.
    • الرابطة القلمية (في المهجر، الولايات المتحدة الأمريكية والأندلس): ضمت شعراء مهجريين مثل جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي. تميزت بالتحرر من قيود الوزن والقافية الصارمة، والتعبير عن الشوق للوطن، والتأمل في الكون والحياة والموت، والنزعة الإنسانية والفلسفية.

2. تجربة الغربة والضياع: انعكاس الأزمات العربية (الفصل الثاني)

يُشكل هذا الفصل محورًا دراميًا في تطور الشعر الحديث، حيث يتناول المجاطي كيف أثرت النكبات والأزمات الكبرى التي عرفها المجتمع العربي خلال منتصف القرن العشرين (مثل نكبة فلسطين عام 1948، النكسة عام 1967، الهجوم الثلاثي على مصر عام 1956، واستمرار الاستعمار) على وعي الإنسان العربي، وخاصة الشاعر. هذه الأحداث المؤلمة أدت إلى شعور عميق بالتيه، وفقدان الثقة في القيادات والحكام، وحتى في المجتمع، وفي الذات نفسها.

نتج عن هذا الإحساس بالضياع واليأس ظهور مظاهر "الغربة" في الشعر الحديث، والتي تناولها المجاطي من عدة زوايا:

  • الغربة في المدينة: فقدت المدينة العربية بريقها الروحي وأصالتها التاريخية، وطغت عليها الماديات والاستهلاك. أصبحت المدينة رمزًا للاغتراب حيث يسعى كل إنسان وراء مصالحه الخاصة، ويفقد الفرد الروابط الاجتماعية الأصيلة.
  • الغربة في الكلمة: فقدت الكلمة الشعرية قدرتها على التعبير عن الواقع المؤلم بصدق، أو على إحداث التغيير المأمول. أصبحت الكلمة مجرد أداة فارغة أو لاغية، مما يعكس إحباط الشاعر من قدرة اللغة على مقاومة التدهور.
  • الغربة في الكون: يتجسد هذا النوع من الغربة في إحساس الشاعر بالوحدانية المطلقة، وعدم الاطمئنان، والشعور بالنفي من أرضه ووطنه، وكأن الكون نفسه قد أصبح غريبًا ومعاديًا. فالزمان يفقد طبيعته المألوفة (ليس هو الليل والنهار والدقائق)، ويتحول إلى كيان لا معنى له. الشاعر هنا هو غريب ينتظر مصيره الفاجع، حتى أن الموت يُصبح خلاصًا صعبًا ولكنه مفضل من واقع لا يُطاق.
  • الغربة في الحب: لم تعد المرأة أو الحب يحملان القيمة الروحية والسمو التي كانا عليها في السابق. بسبب الانحلال الأخلاقي وغلبه الرغبة في الماديات، يُصبح الحب مجرد علاقة سطحية أو مُقيدة، مما يُعمق شعور الشاعر بالضياع.
  • الاستسلام وتمني الموت للخلاص: في هذه المرحلة، يصل الشعور باليأس إلى ذروته، حيث يبدو الاستسلام للواقع المرير وتمني الموت كسبيل وحيد للخلاص من عذاب الحياة.

3. تجربة الحياة والموت: البحث عن الخلاص (الفصل الثالث)

يُقدم هذا الفصل تحولًا نوعيًا في رؤية الشاعر، خاصة بعد أحداث تاريخية مهمة مثل تأميم قناة السويس وحصول عدد من الدول العربية والإسلامية على استقلالها. هذه الأحداث خلقت بصيص أمل وغيرت من نظرة الشاعر للمجتمع، فبدأ باستشراف المستقبل بدلًا من الاستسلام للضياع.

في هذه المرحلة، يظهر تحدي للموت من خلال اعتبار الشاعر نفسه عدواً للموت، وأن مواجهتها تُصبح ضرورية بشتى الوسائل. الموت لم يعد نهاية مطلقة، بل يُنظر إليه كطريق إلى حياة أخرى، أو كبوابة للتحول والبعث. هذا التحول يعكس تفاؤلاً جديداً ورغبة في المقاومة.

وللتعبير عن هذه الرؤية الجديدة، يوظف الشعراء مجموعة من الرموز الأسطورية والتراثية التي تُعبر عن التجدد والبعث والصمود:

  • الفينيق والعنقاء: طائر أسطوري يحترق ليولد من رماده، يرمز إلى التجدد، البعث، الخلود، والقدرة على تجاوز الموت.
  • السندباد: الشخصية الأسطورية التي تُجوب البحار وتواجه المخاطر وتنجو منها، تُشير إلى روح المغامرة، التحدي، والبحث عن المعرفة والحياة رغم الصعاب.
  • اعتبار الموت طريقاً للحياة الأخرى: هذا المفهوم يُجسد تحدياً مباشراً للموت، ويُشير إلى أن المعاناة والموت قد يكونان مقدمة للبعث والنهوض، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي للأمة.

4. الشكل الجديد: التحرر والتجديد (الفصل الرابع)

يتناول المجاطي في هذا الفصل الجوانب الشكلية واللغوية التي رافقت هذا التطور الفكري والشعوري في الشعر العربي الحديث. يُبرز هذا الفصل التحرر من الأشكال التقليدية للقصيدة، وتبني أشكال جديدة أكثر مرونة وقدرة على التعبير عن التجارب المعاصرة:

  • توظيف الأسطورة والرمز: أصبح استخدام الأساطير والرموز جزءًا أساسيًا من البنية الشعرية، لا فقط لتصوير الواقع، بل لإضفاء عمق دلالي وفلسفي على النص، وربط التجربة الفردية بالوعي الإنساني الجمعي.
  • اللغة الانزياحية (أو اللغة الإيحائية/الانحرافية): تحررت اللغة الشعرية من دلالاتها المباشرة والتقريرية، وأصبحت تُستخدم بطريقة انزياحية (أي منحرفة عن الاستخدام المألوف) لإنتاج معانٍ متعددة وموحية، مما يُعطي الشعر غنى ودلالات أعمق.
  • تغيير المفاهيم والنظرة للشعر والمجتمع: لم يقتصر التغيير على الشكل واللغة، بل امتد ليشمل النظرة الكلية للشاعر لدوره، ولدور الشعر، ولعلاقته بالمجتمع وقضاياه.
  • تنوع المضامين الشعرية: أدت عوامل مثل اختلاف المستعمر وطبيعة البيئة التي نشأ فيها الشاعر إلى تنوع كبير في المضامين الشعرية داخل المجتمعات العربية، مما أثرى المشهد الشعري الحديث بتجارب ورؤى متنوعة.

خاتمة:

يُقدم كتاب أحمد المعداوي المجاطي "الشعر العربي الحديث: مراحل التطور" رؤية نقدية مُعمقة ومتكاملة لتطور الشعر العربي من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. يُسلط الضوء على العلاقة الوثيقة بين التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية وبين التغيرات الجوهرية في شكل ومضمون الشعر، مما يجعله مرجعًا أساسيًا لفهم هذه الفترة الحيوية من تاريخ الأدب العربي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال