نقد الشعر.. ارتباط نقد النص التراثي الشعري مع الفكر والفلسفة والمعرفة والإسهام في تأصيل الكتابة النقدية

تركز نقد النص التراثي على الشعر بالدرجة الأولى عند غالبية النقاد والباحثين، ومن أبرز المؤلفات النقدية:
- "تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من القرن الثاني حتى القرن الثامن" لإحسان عباس (فلسطين، 1971).
- "نظرية الشعر عند الفلاسفة المسلمين من الكندي حتى ابن رشد" لألفت كمال الروبي (مصر، 1983).
- "الثابت والمتحول" لأدونيس (سورية، 1974).
- "نظريات الشعر عند العرب" لمصطفى الجوزو (لبنان، 1981).
- "اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري" لمحمد مصطفى هدارة (مصر، 1963).
- "الحركة النقدية حول مذهب أبي تمام" لمحمود الربداوي (سورية، 1973).
- "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" لجابر عصفور (مصر، 1974).
- "النقد الأدبي وأثره في الشعر العباسي" لناصر الحاني (العراق، 1955).
- "موسيقى الشعر" لإبراهيم أنيس (مصر، 1947).

وتعالق نقد النص التراثي الشعري مع الفكر والفلسفة والمعرفة، وأعرض كتاب محمد لطفي اليوسفي "الشعر والشعرية، الفلاسفة والمفكرون العرب، ما أنجزوه وما هفوا إليه"، على أنه الأشمل في إضاءة نقد الشعر وأبعاده العميقة.

يمّثل كتاب اليوسفي محاولة لقراءة منجزات الفلاسفة والمنظرين العرب في الشعر والشعرية، ووصفه عملاً غايته الإسهام في تأصيل الكتابة النقدية، ورأى أن "التأصيل لا يعني الإحياء. ذلك أنه حركة تتنزل من التاريخ هناك في الصميم. حركة تمضي إلى التراث لتكشف عن خباياه. وغايتها من ذلك ليست الحلول في التراث بل مفارقته، تصبح الأصالة هي الحداثة ذاتها"([1]).

انطلق نقد النص التراثي من منظور بنائي بياني، بما يفيد أن إعادة اكتشاف النص القديم ذاته يمكن أن تتم بالنظر في النص الحديث. وثمة قضايا تثري الخطاب النقدي العربي بين الأصالة والمعاصرة، ومنها قضية الدلالة، وقضية الغموض، وقضية الإيقاع، وقضية التمسك بالتراث، وقضية النظرية الأدبية وغيرها، على ألا تنقطع هذه القضايا عن تواصل التراث والحداثة، من خلال البناء الشكلي ومحتوياته، وترسيمات القراءة للخطاب النصّي.

شملت دراسات الكتاب ضبط أصول النظرية العربية، ومدى التداخل مع النص اليوناني وتجلياته في الثقافة العربية، من الصراع إلى الحوار، لإضاءة أبعاد النص القديم، ما دامت النظرية تمتلك وجوداً تاريخياً، و"تشكلت بالنظر في النص من زاوية ما يفي بحاجات وجود العرب وقتها"([2]).

انطلق الإنشغال بقضية الشعر والشعراء في مجالين، أحدهما موضوعة الشاعر، أما الثاني فمداره النص وخصوصياته ووظيفته، مثلما تواضع الشاعر والشاعرية مع منابت الشاعرية ومكوناتها ما بين الطبع والغريزة والعاطفة القوية، وتعاضدت هذه المكونات مع الدربة القائمة على الحفظ والرواية وإدامة النظر، وثمة ثراء للشاعرية في العناية بالطبع لاشتغال القوى الفطرية إزاء التهيء للقول، من النفاذ إلى القوانين التوليدية الكامنة في النظام اللغوي إلى إدراك قانون المشاكلة.

تأصلت الشعرية مع حداثة النقد النصي وترابطه العضوي وصياغاته في المستويات الإيقاعية والدلالية والإيصالات الشعرية الناظمة لمنظورات النص وطرائق تشكيله، "على أن الجانب البنائي، أي الصياغة والنسج وجودة المرصف هي جوهر الشعر والصورة التي تحدد قيمته"([3]).

أكد اليوسفي أن وظيفة الشعر لا تتم بمعزل عن النظر في مكانة النص، بما في ذلك النص القرآني نفسه، وأثره في الثقافة العربية، وعمّق الرأي في لا تاريخية القراءات التي اهتمت بحضور مؤلف أرسطو في الثقافة العربية، ومشكلات القراءة اللاتاريخية واندغامها بقراءة النص من داخله بالدرجة الأولى، وبتحديد المنهج وعملية الإصغاء إلى النص من داخله، نحو تشكيل رؤاه البيانية والنظام البياني المعرفي والمحمولات الثقافية، ونفعها في الإعلان عن الهوية والماهية.

تقصى اليوسفي كتاب "فن الشعر"، ما قاله وما سكت عنه، وأول مواقف المهتمين بتراثنا الفكري من كتاب الشعر لأرسطو، ولاسيما مفهوم المحاكاة والرؤية والتبويب والقراءة والمنهجية. وأوضح أن للصراع بين النظام المعرفي اليوناني والنظام العربي تاريخيته ومداه، وأن تأثيرات كتاب فن الشعر متصلة بطفح الدلالات، وخبايا مفهوم المحاكاة، وفعلية الشعر (الكاثرسيس)، بينما تباينت التأثيرات لاحقاً إزاء حدوث التأصيل، والصراع بين الرؤى، وخلخلة النظام اليوناني داخل الخصائص الثقافية العربية من خلال إقصاء الحكاية، وإقصاء رؤية أرسطو لعملية الإبلاغ الشعري، وهذا جلي في منجزات الفلاسفة والمفكرين العرب من الشرح إلى الابتداء والتأصيل في تلازم مفهوم الشعر مع الخصائص الثقافية، وأساسه أن الشعر هو فعل الشعر، وأن الشعرية بلا ضفاف، وتقع في الشعر، وتندسّ في النثر، وأن للشعرية وظيفتها الواسعة، وأن للإيقاع مكانته في عملية التصنيف والنمذجة، وفي شكل القراءة، والدفق الدلالي، وفي ماهية الشعر وتخييله. غير أن الفلاسفة العرب سكتوا في نصوصهم عن حضور النظام البياني وصداه في كيفية التمثل، ومكونات الباثّ والرسالة والمتقبل، والتأويل، وقراءة المنهج، وطبيعة الموضوع المدروس.

رأى اليوسفي أن اهتمام الدارسين بالشاعر لا يقلّ أهمية عن اهتمامهم بالنص وبحثهم عن القوانين التي تؤسس مجتمعة علم الشعر. وأن العوامل الخارجية التي تعين على إخراج الشاعرية من حّيز الوجود بالقوة إلى حّيز الوجود بالفعل هي المهيئات والبواعث، وأن المكونات المتسترة على نفسها في ذات الشاعر هي القوة الحافظة، والقوة المائزة، لاستدعاء المقاصد الكلية، وأسلوب إيراد تلك المقاصد وطرائق تشكيلها، وترتيب المعاني وفق ما يتطلبه الأسلوب المتخير، وصياغة المعاني في عبارات، وتخّيل المعاني وفق ما يتطلبه الغرض من تواتر وتراتب، ومكّملات المعاني وزينتها، وملاءمة تلك المعاني للإيقاع، وملاءمة المعنى الملحق بالمعنى الأصلي لاكتمال البيت الواحد.

صارت قراءة النص الشعري راسخة مع الخصوصيات الثقافية العربية من التقاط القانون إلى تأصيله، وتأصيل مقولات السلف، وتجلى ذلك في العدول الإيقاعي الخارجي والداخلي، والمستوى الدلالي عند ضبط المحاكاة والتخييل وقضية الإيصال الشعري ووظيفة الشعر، وعند تحديد أنماط المحاكاة من حيث مقاربة الواقع، وفاعلية التخييل في صلب الخطاب الشعري وتحولاته الدلالية (المعنى ومعنى المعنى)، وتراتبية الغرابة والغموض في الجانب البنائي للخطاب الشعري، ومدى التخييل وتأثيره في المتلقي كالإمتاع والمؤانسة، ومساهمة المتلقي في عملية الإبداع.

استنتج اليوسفي في دراسته الواسعة والعميقة نظرية العرب الخاصة في الشعر والشعرية من المؤثرات إلى التأصيل، على أن نظرية العرب في الشعرية فعل وجود، وأن النظرية تمتلك وجوداً تاريخياً والنص الشعري يوجد وجوداً لا تاريخياً، أما لحظات اندفاع النظرية فمتجلية باحتواء النص الشعري، بينما تبدت لحظات الانكفاء بأحوال احتجاب النظرية في أقوال النص، ثم صارت العلاقة بين النصين القديم والمعاصر علاقة تنامٍ في التغاير، حسب الخصوصيات الثقافية العربية، دعوة إلى رسوخ تأصيل النص بالكشف عما لم يكشف عنه القدامى، وتأصيل الذات بدفعها على درب الحيرة والسؤال، وتأصيل النظرية العربية القديمة، و"هذا يعني أننا مطالبون بإعادة بناء شعريته بالنظر في النص الحديث ذاته. فالنص الحديث لا كلّ نصّ، بل ذاك المؤسس الأصيل، إنما يستمد شرعية وجوده بيننا، وقدرته على الفعل فينا، من وقوعه على تلك الشعرية المقفلة على ذاتها في النص القديم، إنه حركة تنامٍ للقديم، وليس هدماً له"([4]).

تلازم نقد النص التراثي في الشعر بين التأصيل والتحديث توجهاً نحو صوغ منهجيات معرفية لا تخرج عن الخصوصيات الثقافية العربية.

[1] ـ اليوسفي، محمد لطفي: الشعر والشعرية، الفلاسفة والمفكرون العرب، ما أنجزوه وما هفوا إليه، الدار العربية للكتاب، طرابلس الغرب، تونس، 1992، ص7.
[2] ـ المصدر السابق، ص2.
[3] ـ المصدر السابق، ص110
[4] ـ المصدر السابق، ص389
عبد الله أبو هيف
أحدث أقدم

نموذج الاتصال