الخطاب الأول في مجموعة (قامةٌ تتلعثم) لعيد الحجيلي وشعرية التسعينيات



شكّل الشاعرُ الخطابَ الأول معتمداً على الأمور التالية: 
** التكثيف في الدلالة والاقتصاد الشديد في اللغة واعتماد لغة الإيحاء أساساً للتعبير والتصوير ، يقول في (حصاد):
كلما نضجتْ فكرةٌ
في عذوقِ السهرْ
وجدَ الثلجَ مسترخياً
في سريرِ الحروفْ.
** استحوذت جميعُ عناوين النصوص على كلمات مفردة . وقد جاء العنوان جزءاً من تكوين النص ، ومدخلاً لفهم دلالته ، ونافذة ممهّدة للتشكيل ، إلى جانب أن هناك علاقةً بينية شديدة الترابط بين العنوان وبين النص . ومن خلال هذه الميزة - التي هي علامة فارقة للشعر الجديد - يختلف هذا الخطاب الأول في المجموعة عن الخطاب الثاني الذي يمكن قراءة نصوصه دون الالتفات إلى عناوينها ، أو أن العناوين لاتشكّل ارتباطاً وثيقاً بالنص بنفس الحجم الذي تشكّله في علاقتها بنصوص الخطـاب الأول . ومن عناوين النصوص (ترميم ، أرض ، تعريف ، شاعر ، حصاد ، دعوة ، ذكرى ، شاعرة ، عطش ، قارىء ، مسافة ، موازنة ، موقف ، سيرة ، تأويل ، نظرة) .
** تشكّلت أغلب النصوص من عددٍ قليل من الجمل والمفردات واستحوذت بصرياً على حجم مكاني ضيّق،وأحياناً لايتجاوز بعضها جملة واحدة كقوله في (مسافة):
    بينَ بابِ القصيدِ
    ونافذةِ الحلمِ
    تمتدُّ مقبرةُ الشعراءْ
فهذا النص لو أعيد ترتيبه نحوياً لأصبح جملة واحدة . وظني أن الإبداع في مثل هذا النوع من الكتابة يكمن في أن الشاعر يستطيع أن يقول مايريد في أقل ما يمكن من المفردات والجمل ، ويستطيع من خلال هذه المساحة الضيقة أن يقنع المتلقي ، ويفعّل أحاسيسه ، ويؤثّر فيه .
** جاءت الصور الفنية التي قدّمها الشاعر في هذه النصوص ناجزة من حيث التشكيل الفني ولكنها غير مقفلة ، وهو لم يشكّلها جزءاً جزءاً وإنما قدّمها دفعة واحدة ، مما يجعل تلقّيها الفعلي يبدأ من حيث تنتهي قراءتها . من هنا فهي تفرض على المتلقي أن يشارك الشاعر التجربة في إعادة صياغة النص من جديـد بعد إسقاطه له على نفسه .
** استخدم الشاعر السرد والزمن أساسين لفتح نوافذ في هذا الحيز الضيق الذي تفرضه طبيعة الرسالة الشعرية القصيرة جداً ، فنحن لانحسّ بقصر النص أو أن هناك خللاً ما في التشكيل بسبب هذا القصر ، بل نحسُّ بنوعٍ من الإشباع وكأننا أمام نص طويل . يقول في (شاعرة):
بينَ هدأتها مرآتُها
ولُهاثُ الرؤى الصاخبةْ
ترقبُ العمرَ
يسقطُ قافيةً قافيةْ
ويقول في (ذكرى) :
فرَّ من صدرِهِ
طائرٌ غرِدٌ
زرعَ الصبرَ في جوفهِ
وردةً من ظلامْ
هائماً نثرَ الريشَ
في درِبها اللولبيّ
وقشّرَ آفاقَها بالغناءْ
عدَ عامٍ ، أو ثلاثةِ أعوام
أو ...
عادَ يلتحفُ الصمتَ والبردَ
يحملُ جناحينِ
ضاعا بجنحِ الزحامْ
وكذلك قوله فـي (سيرة ) :
بعدَ أن نضجتْ قدماهُ
ونمتْ فتنةُ الخطوِ
في هينماتِ الرؤى
والدروبِ الملاحْ
كلّ يومٍ يسيرُ
ي س ي ر
وظِلٌّ رهيفٌ كسوطٍ
يلاحقُهُ بالنباحْ
فنحن هنا أمام نصوص تمّ توسيع مساحاتها الضيقة بفضاءات واسعة من خلال عنصري السرد والزمن ، أعني أنها اعتمدت على فضاءات واسعة في مساحات ضيّقة استُفرت فيها طاقة التخييل ، وقوّة السـرد ، وإيحاء الزمن وعمقه وامتداده .
** وقد دعم الشـاعر كل ذلك ببناء الموقف الشعري على أسلوبي المفارقة والشرط مما ساهم في دعم كثافة البنية الجمالية وتراصّها وإيحائيتها . يقول في (شاعر):
بعدما شربتْ عمرَه
الكلماتْ
قيلَ: ماتْ
ويقول أيضاً في (تأويل) مستحضراً أسلوب الشرط :
كلما ضحِكتْ
غيمةٌ مرجأهْ
أطفأَ البرقُ
في فمها العذبِ
سيجارةً مغرمهْ
غيمةٌ تلكَ
أمْ مِطفأهْ
** واعتمد الشاعر أيضاً على قوّة السؤال . ومعروف أن السؤال يُثير أسئلة ، والأسئلة تستثير إجابات ، والإجابات تستثير نشاط الذاكرة وخصوبة التخييل لدى المتلقي ، وتحفزه على تفاعلٍ مختلف مع النص . يقول في ( موقف ) : كيف لي أن أسمعَكْ ؟
بيننا ياصاحِ أخدودٌ ضبابيٌّ
وأطيافُ شركْ
** ومثلما اعتمد هذا الخطابُ على التكثيف في الدلالة والاقتصاد الشديد في اللغة اعتمد أيضاً على تكثيف العناصر المكوِّنة للصورة . فجُلُّ النصوص اعتمد على عنصري الأنا والأنت كطرفين محوريين تتولّد منهما أطراف جزئية كثيرة ومتنوّعة شكّلت - من خـلال تفاعلها - أهم عناصر شعرية النصوص . يقول في (عطش) :
   تفاقمَ في صدريَ
العطشُ البربريُّ
وصدرُكِ مصطخِبٌ
بالرحيق ِ
يموجُ بماءٍ مكينْ
لقد نجح الشاعر في تطويع جميع الحالات التي جسدّها في هذا الخطاب فقدّم نصوصاً تستثير فينا كمتلقين الحياةَ في صورها الثلاث الحساسية والعقل والإرادة باستثناء بعض النصوص التي وقعت في فخ النثرية كقوله في (نظرة):
يقولون عنها بريد الضلال
وما هي إلا شهيق السؤال
وقولـه فـي (تعريف) :
الذكرياتْ
جمرٌ تلفّتَ ذاتَ ريحٍ
في هشيمِ الأمنياتْ