حقل الرؤيا في مجموعة (يا فدى ناظريك) لغازي القصيبي.. الحلم المشروع. الأمان الاجتماعي. البراءة والنقاء. الفرد المتوازن

لقد سعى الشاعر في هذا الحقل إلى رسم صورة مكوّنة من مجموعة من العناصر بوصفها بديلاً للرؤية.

وهي أشبه بالطموح (أو الحلم المشروع) الذي يجسّده الشاعر كبديل للعناصر التي أوردها في الرؤية.

وأريد أن أؤكّد أن (الرؤيا) لـدى الشاعر جاءت ناضجة، متبلورة، متكاملة، وأن الشعرية بلغت فيها أعلى مستوياتها.

أول الأركان: الاستقرار السياسي، وثانيهما الأمان الاجتماعي حيث ينتشر العدل، ويسود الحب، وينعدم القتل والسبي، وهذان الركنان بديلان موضوعيان للفساد السياسي والاضطراب الاجتماعي في الرؤية.
وقد مثّل الشاعر لذلك بمواقع كثيرة في نصوصه.

من ذلك قوله:
أرى طفلةً في زحامِ  الحياة -- تخوضُ الجموعَ بحزنٍ  يثورْ
ترومُ الحنانَ وترجو الأمانَ -- وتبحثُ عن مرفأٍ من حبور
يحبّون  فيـكِ  المثيرَ  المثيرَ -- وأعشقُ فيكِ الطهورَ الطهور

أما الركن الثالث للرؤيا فتمثّل في تأكيد المجموعة علـى مفهومي (البراءة والنقاء) وتجسيدهما.
والشاعر ينشد هذين العنصرين في الطفولة الجميلة.
ولعل نص (ترنيمة لسلمان) حفيد الشاعر، وعمره ستة شهور يعبر عن ذلك.

يقول:
سلمانُ، هل تمنحنُي
تذكرةَ الدخولِ في عالمِكَ الصغير
في عالمِ الدميةِ والحليبِ والسرير
أحسنتَ يا سلمان
اسمعْ إذن حكايتي
وأنتَ فيها بطلُ الأبطال
تجولُ في الغابةِ لاتهاب
تلاعبُ البطةَ، وتجمعُ الأزهار
فيُقبِلُ الأصحابُ يهتفون: سلمان يا سلمان
يا فارسَ الأولاد
يا أشجعَ الشجعان
أنتَ مليكُ الغاب
سلمان
غفوتَ يا سلمان

النص جميل، انسيابي، يطغى التعبير العاطفي فيه على التصوير الفني، وتكمن شعريته في بساطته، وتنوّع عناصره، والتكرار الفني فيه، والجملة الأخيرة التي استطاع الشاعر من خلالها استحضار حرارة الموقف، وبعده الإنساني، بل إن الشاعر جعلنا من خلال ذلك نتقمّص الحالة التي جسّدها، ونأخذ موقعه.

لاأدري لماذا شدّني هذا النص؛ فهو يدخل ضمن السهل الممتنع ويعبّر عن الصدق والسلاسة والتدفق العاطفي، ولولا أن الشاعر أقحمَ الخطاب السياسي في جزء من النص لكان من أجمل نصوص المجموعة.

ورابع أركان الرؤيا (الفرد المتوازن، الخصب، المعطاء، المنسجم مع نفسه).
وهذه الصفات هي بدائل للفرد المغترب، العدمي، المأزوم، الخائف في الرؤية.

وقد مثّل الشاعر لهذا الفرد برثائه لنزار قباني، ولعل ما كتبه فيه من أجمل ما كُتب عن نزار قباني، وهو نص فائقٌ بكل المقاييس الفنية، ممتلىء بالصور، وعفوية التعبير، وطغيان الجانب العاطفي، والجدة في تشكيل الصورة ومحتواها.

يقول:
كتبتُ اسـمكَ فوقَ الغيمِ بالمطرِ -- وبالجدائـلِ في سـبّورةِ القمرِ
يا للوسيمِ الدمشقي الذي هرِمتْ -- دنياهُ وهو على وعْدٍ مع الصغرِ
تجيئُنا يـا أميرَ الفـلِّ متّشـِحاً -- بكلِّ ما في ضميرِ الفلِّ من صورِ
تركتَ فـي كلِّ دارٍ وهجَ زنبقةٍٍ -- كأنما أنـتَ إعصارٌ  من الزهَرِ
تموتُ كيفَ؟ وللأشـعارِ مملكةٌ -- وأنت فيها مليكُ البدوِ  والحضرِ
إذا قرأناكَ عِشـنا رحلةً عبرتْ -- بكلِّ شيء جميلٍ في دمِ البشرِ.

إن الصور الفنية في النص تتميّز بالجدة، والحسية، والحركة، والتشخيص، والحرارة الواجدانية، وخصوبة التخييل الفني.

ونشير هنا إلى أن كـل نصوص الرثاء تكاد تؤكد الجانب المتكامل للفرد االذي تسعى الرؤيا لصياغته على الرغم من تفاوتها فنياً.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال