تجربة شعرية ناضجة تستحق التقدير في مجموعة (حمائم تكنسُ العتمة) لجاسم الصحّيح



تشعر وأنت تقرأ مجموعة الشاعر جاسم الصحيح (حمائم تكنس العتمة) أنك أمام تجربة شعرية ناضجة.
ومما يدلّل على هذا النضج عدّة أمورٌ عدّة، أبرزها:

أولاً: خصوبة التخييل الفني:
ومـن علائم ذلك: الجمع بين أطراف متباعدة لايمكن الجمع بينها إلاضمن هذا الحيّز، تبادل وظائف الحواس، تحسيس المعنوي وتشخيصه، جعل المحسوس أكثر حسية، الاعتماد المباشر على التصوير لاالتعبير، غزارة الصور الجزئية، الغنى والتنوع في بناء الصورة الفنية، المفردات والتراكيب، وطرائق تناول الحالات المجسَّدة.

إن الخيال العادي يقوم بنقل ماهو موجود على سبيل الحقيقة المدرَكَة؛ أما التخييل الفني فيُعيد تركيب الأشياء بطريقة تختلف عن أصل وضعها، ويشـكّل مـن خلالها طقوساً مغايرة للمألوف، وهذا ما تبدّى في مجموعة (حمائم تكنس العتمة).

فعلى الرغم من أن الشاعر اعتمد البناءَ المعماري العمودي (النيوكلاسيكي) الذي يتعاطى مع الشفوية غالباً، فهو لايفتأ يُغني نصوصَه بكل ما تحمله خصوبة التخييل الفني من مزايا. 

ففي الإهداء الذي يفتتحُ الشـاعرُ به نصوص المجموعة يؤكد ذلك قائلاً:
قصـائدي فـي مهبِّ العشقِ قافلةٌ -- مـن الجنائـزِ  أنعَـاها  وتنعاني
شـيّعتُها فإذا النجماتُ تتبعُني -- والليلُ يلهثُ من خلفي ويغشاني
إن كنتِ لم تعهدي في الأرضِ مقبرةً -- تمشي فدونكِ ياحسناءُ ديواني

ثانياً: مقاربة المناخ الأسطوري وتوظيفه ضمن إطار التجربة الشعرية الذاتية:
وقد تبدّا ذلك مـن خلال اعتماد الشاعر شكلين أساسيين من التعبير، أولهما: استيحاء روح الأسطورة لا الأسطورة ذاتها، وقد وّفّق فيه، وثانيهما اعتماده على الرمز الأسطوري مباشرة، لكنه لم يوفّق فيه؛ ففي الشكل الأول يضمّن الشاعر روح الأسطورة، ويُعيد إنتاجها من جديد على سبيل التناص، بحيث لايدرك ممّن ليس له دراية بأصل الأسطورة أن الشاعر ضمّنها في هذا الموقع.

وهو يبدو من خلال توظيف النص الآخر في خدمة الحالة المجسّدة بحيث يصبح جزءاً أساسياً من نسيج النص الجديد، ويأخذ خصوصيته بعد أن يفقدَ ملامحه التي كان عليها في النص السابق.
ومن أمثلة ذلك قوله:
من أجلِ وحدةِ هذا العالمِ القلقِ -- عودي إليّ احرقيني فيكِ واحترقي
لابـدّ للنـار أن تفني فراشتَها -- كي يُولَد العشقُ من حريّة الألقِ

وفينيق لايعود إلى الحياة إلا إذا أَحرَقَ نفسَه حرقاً على الهيكل العملاق الذي يبنيه لنفسه في بعلبك.

وفي الشكل الثاني من الاستخدام كان الرمز الأسطوري يأتي غريباً على السياق، وكأنه حُشِيَ عمداً، وفيه نفورٌ، وعدم استغراق.
من ذلك، قولُه:
نحنُ لن نفقَ في أعرافِنا
حينَ نغنّي للتوابيتِ ونكسوها وِشاحاً ووسامْ
كم تفتّحنا على أجسادِ موتانا بساتينَ كلامْ
وقطفنا باقةً صفراءَ للأجيالِ من تلكَ العظامْ
ووقفنا خارجَ الأفُقِ الجنوبيِّ
نُحيي كلَّ فينيقَ تجلّى طائراً من بين أنقاضِ الحُقُوبْ
سقطَ الكابوسُ واندكّتْ هنا لأسطورةُالكُبرى على صخرِ الجنوب

ومثلما لم ينجح الشاعر فـي التعاطي مع الرمز الأسطوري، لم يوفّق أيضاً في استحضار الرمز بعامة، الشعبي و التاريخي والديني والخاص، يقول:
أفطرتْ بالأملِ الأخضرِ (قانا)
ومضتْ تنبُشُ صندوقَ بريدِ الأُفقِ
حين اندلعَ الصبحُ عليها من ثنايا قُنبلةْ
شهرزادُ انطفئي الآنَ ، ويا ديكَ الحكاياتِ احترقْ في صيحةِ اليأس
فلن يولّدَ بعدَ اليومِ فجرٌ يستفزُّ الأخيلةْ
قفزتْ (كذبةُ نيسانَ) على السجنِ الخرافيّ
وصاغت في فمِ (التلمودِ) لحناً (سامرياً) من خوارِ العجلِ
يا دنيا اسمعي نغمةَ هذي المهزلةْ

فالرموز هنا متراكمة، وثقيلة، ونافرةٌ، ومُربكة، تضعُ الصورة الفنية في حالة من التلقي الذهني، وتعزلُ بين المتلقي وبين الإحساس الجمالي الذي يُفترض أن يُحدثُه النص فيه.

لقد انتشرت هذه الظاهرة الزائفة في التعامل مع الرموز في قصيدة الرؤيا خلال فترة الستينيات لدى شعراء مثل: فايز خضور، وأدونيس، وعبدالوهّاب البياتي، ومحمد عمران، وقبلهم بدر شاكر السياب وبلَند الحيدري ويوسف الخال.

ثالثاً: من علائم نضج التجربة لدى الشاعر الصدمةُ التي يشكّلها النص في المتلقي:
وتأتي من المفارقة أو عدم التوقّع.
وقد ورد ذلك في بناء الصورة وفي خاتمة النص.

وهذا يذكّرنا بالشاعر الكبير عمر أبو ريشة الذي كانت تتحقق أبرزُ ملامح شعريةِ نصوصه من غزارة الصور الجزئية ذات الطابع الحسّي المشخّص، والبيت الأخير (انظر قصائد: هؤلاء، وعودي، وفـي طائرة المنشورة في أعماله الكاملة الصادرة عام 1971 عن دار العودة في بيروت).

رابعاً: السعي إلى مقاربة الطقس الصوفي في المفهوم والبناء:
فالحلول، والتوحّد، والتشظّي، والذوبان في الآخر، والعلاقة الاندماجية بين الحبيب والمحبوب مفاهيم  تتردّد في المجموعة لتساهم في تقديم نصوص مختلفة في دلالاتها وبنائها.

 ويُشار هنا إلى أن علاقة التوحّد الصوفية بين الحبيبين هي الأساس في بناء المعادل الموضوعي للقبيح المتجسّد في الواقع.
شممتُكِ في البعيدِ من الشواطي -- شممتُكِ نورَسـاً مـن ياسمينِ
سأبني منـكِ قاعـدةَ الأماني -- وأكسرُ فيـكِ قاعدةَ الظنونِ
خذيني فالمسـافةُ أسـلمتْني -- إليـكِ وجدّدي مائي وطيني

خامساً: وقد أوردَ الشاعر - ضمن هذا المناخ المميّز - رؤيته في مسارين: الواقع المحنّط الممتلىء بالقتل والدم، المستثير للقبح، والفـرد المنفصم الذي يستثير الشعور التراجيدي لدى المتلقي ولايستجديه، ومن أمثلة ذلك قوله عن الفرد:
فما أبعدَ الشوطَ بين أنا وأنا
إنني أُولَدُ الآنَ من سقطتي في مهاوي الغروبْ
سقطتُ سقوطَ الدقائقِ دونَ رنينٍ
تاريخُ حُزنٍ يمُدُّ خيوطَ عناكبهِ حولَ عُمري
ووحدي أُلملِمُ أشلاءَ اسمي القديمِ وقد بعثرتْهُ الليالي
على كلِّ مُعتَركٍ للكروبْ
محنّطةٌ كلُّ هذي الوجوه
إنَّ الحقيقةَ أدمَمى ذواتِ النُيُوبْ

وقوله عن الواقع:
هي الأرضُ آسنةٌ بالأنا
ما تزالُ تفتّشُ عن ذاتِها في بطونِ المحابرِ
حتى تغيبَ الجهاتُ وتنطفىءَ البوصلهْ

سادساً: لكن الفرد لم يكن يستسلمُ للبؤس القادم إليه من الآخر، فيعود ليجمع شتاتَ نفسه من خلال بناء رؤياه على الحب.

فالحبُّ هو أساس الرؤيا في مجموعة جاسم الصحيح، ولكنه حبٌّ غير عادي حيث ينتقل الحب إلـى عشق، والعشق إلى هوى، والهوى إلى جنون.

وقد جسّد الشاعر قيمة الجميل بناء على هذا المفهوم. يقول:
أنا عاشـقٌ كسرَ الحقيقةَ  وانثـنى -- هيمانَ فـي وادٍ  مـن الأطيافِ
ما زلتُ أركضُ والدروبُ على يدي -- ملويّـةٌ وهواجسي أخفافي
حتى سقطتُ فشـدَّ قامتيَ  الهوى -- وأحالني جسـداَ من الصفصافِ
فتذكّرينـي كلّمـا صفصـافـةٌ -- لاحتْ تُجسِّدُ في الهوى أوصافي

وهو يختصرُ كلّ ذلك بقوله في مكان آخر: 
فالعشقُ أعمقُ  مايشـفُّ  إذا انثنى -- يجلو السؤالَ عن الهوى بسؤالِ

سابعاً: مما ساهم في إنضاج التجرية الشعرية وإغنائها - إلى جانب ما تقدّم - الوضوحُ المميز لثقافة الكاتب.

فهو يعتمد على مصادر ثقافية متنوّعة؛ مـن ذلك: التراثُ الإسلامي، والتجربة الصوفية / الفنية والفكرية، والتاريخ الإنساني والعربي، وميثولوجيا التكوين المتوسطية.
وقد استطاع الشاعر بحقّ أن يوظّف معظم هذه المصادر بتميّز في تجربته المشكّلة فنياً.

ثامناً: حاول الشاعـر أن يعتمد على نظام التفعيلة - إلى جانب البناء العمودي - لكنه لم يوفّق، فهناك تفاوت كبير بين النمطين؛ ففي النمط الأول نجح في صياغة حالات شعرية مميزة، وفي النمط الثاني هبط بالشعر إلى مستوى (الخيال الأول)، واستجدى من خلاله ضحالةَ الذاكرة وسُقم المادة، فاعتمد على نقل الحقيقة على سبيل الوصف لا الخلق .

فجميع النصوص التي من هذا النوع وعددها (7) مـن أصل (21) نصاً باستئناء الإهـداء تهبط إلى مستوى النثرية، لذلك نجد أن مستوى الإيقاع فيها أحادي الجانب، ويكاد يتكرّر نظام الجملة نفسه، وكذلك التركيب والصورة علـى الرغم من اختلاف الموضوعات، من ذلك قوله:
سقطَ الليلُ على سوءتِهِ في هُوَّةِ الغيبِ
وظلّتْ في المدى غيمةُ شؤْمٍ
شوّهْ ناصيةَ الأفقِ
فجاءَ الفجرُ ممسوخاً كمَنْ لاوجهَ لهْ
ما الذي توحيهِ هذي البقعةُ السوداءُ؟
أبداً ياسادنَ الوقتِ
فقانا اغتسلتْ منذ هزيعين بأنفاسِ الفدائيين
صلّت بالمحبـيّن
وفاضَ التينُ والزيتونُ من تلكَ الصلاةِ الطُّهرِ

ولعل من أسباب ذلك أن الشاعر كتب هذه النصوص بنفس الوعي الجمالي التقليدي الـذي كتب به النصوص المعمارية العمودية.

ومما يؤكد مانذهب إليه - إلى جانب ماتقدّم - أن الشاعر استخدم (روح الأسطورة) في البناء العمودي ونجـح ، واستخدم (الرمز الأسطوري) والرموز الأخرى في قصيدة التفعيلة، ولم ينجح على الرغم من أن العكس هو الذي كان ينبغي أن يكون باعتبار أن الأسطورة هي لصيقةُ الصلة بشعر التفعيلة، لكن نجاحَه في كتابة الشكل العمودي جعله يطوّع كل العناصر - حتى الجديد منها كروح الأسطورة - ضمن حالة متفردة.

وأعتقد أن عدم جرأة الشاعر في تجاوز البناء العمودي هو الذي أوقعه في ذلك ، وحدّ من شعرية النصوص السبعة المذكورة.

والشاعر يختم مجموعته بأربعة نصوص كُتبت لمناسبات محددة، وهي لاترتقي في مستواها الفني أو الجمالي إلى مستوى النصوص الأخرى.

خلاصة القول:
إن تجربة جاسم الصحيح في مجموعة (حمائم تكنسُ العتمة) تؤكد أننا أمام قامة شعرية ناضجة تستحق التقدير والعناية.