نحو شعريـة تأويلية للميتامسرح.. الاهتمام بتاريخ الجمالية المسرحية ورصد تصور شمولي عن الظاهرة المسرحية

دأبت الأبحاث المنصبة على تاريخ الظاهرة المسرحية على رصد المنظورات والأفكار والتصورات المتعلقة بالفكرة المسرحية من خارج الإبداع المسرحي.

وقد انصب البحث عن هذه الفكرة، أساسا، على خطابات الفلاسفة  وتنظيرات المبدعين، كتابا ومخرجين، والتي تضمنتها بياناتهم أو أبحاثهم أو مقدمات مسرحياتهم.
 إلا أن الملاحظ أن هذا التقليد الذي رسخته أبحاث من هذا النوع، يعيش اليوم وضعا غير قار.

في هذا الإطار، ليس من الصعب علينا أن نتصور الخلخلة التي من شأنها أن تلحق بما ترسخ في أذهاننا من بديهيات ويقينيات حول تاريخ المسرح، خصوصا عندما نقرأ، اليوم، آراء مثيرة عن مسرحية معاصرة كمسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" للمسرحي الإيطالي بيرانديلو Pirandello، تعتبرها بمثابة "عرض ذاتي لتاريخ الدراما"، أو "عرض لخمس وعشرين قرنا من الشعرية المسرحية".

إن آراء كهذه، بقدر ما تؤسس لمنظور جديد حول تاريخ المسرح، بقدر ما تفتح أفقا آخر للبحث عن صيرورة الفكرة المسرحية داخل نصوص المؤلفين.

صحيح أن نظرية المسرح تبلورت - منذ العصر اليوناني إلى الآن - من خلال كتابات ذات طابع نظري لا يمكن للدارس أن يغض الطرف عنها، بدءا من النص المؤسس المتمثل في "شعرية" أرسطو مرورا بتنظيرات هوراس Horace الممثل الرئيسي للعصر اللاتيني، ثم بالخطابات الثلاثة  لكورناي Corneille (1660) حول التراجيديا والقصيدة الدرامية والوحدات الثلاث، ثم "رسالة إلى دلومبير حول الفرجات" لجان جاك روسوJean Jacques Roussau(1758)، ثم مقدمة "كرومويل" لفكتور هيجو Victor Hugo(1827) التي تعد دستور الرومانسيين، ثم "الطبيعية في المسرح" (1879/1881) لإميل زولاEmile Zola، ثم "عن اللاجدوى المطلقة للعرض الدقيق" لمنظر الاتجاه الرمزي بيير كيارPierre Quillard، وصولا إلى آخر الموجات التنظيرية ذات الطابع الفردي التي عرفها القرن الحالي، ممثلة في بريشت Brecht وأرطو Artaud وكروتوفسكي Grotowski وستانسلافسكي Stanislavski وغيرهم.

لكن هذه السلسلة من النصوص النظرية التي كتبها فلاسفة ومبدعون مسرحيون لا ينبغي أن تحجب عنا مساهمة المؤلفين في رسم ملامح شعرية المسرح من داخل نصوصهم المسرحية، لاسيما وأن هذه النصوص بقدر ما أبدعت في بناء عوالم متخيلة قوامها الحكي المستخلص من منابع غنية كالأسطورة والتاريخ والواقع، والشخوص المجسدة لنماذج بشرية وأنماط وأمزجة وكيانات مختلفة، وأساليب وتركيبات فنية متنوعة، بقدر ما كانت تحمل وعيا - مضمرا وصريحا في آن واحد - بأسس المسرح وآليات اشتغاله والعلاقات القائمة بين مختلف مكوناته انطلاقا من سيرورة الإنتاج حتى سيرورة التلقي. وبكلمة واحدة ، يمكن القول إن ثمة شعريات مسرحية تبلورت من خلال تاريخ النصوص المسرحية.

ولعل الوعي بهذا الأفق الجديد في البحث عن شعرية المسرح، هو الذي يفسر لماذا لجأ بعض الدارسين، المهتمين بتاريخ الجمالية المسرحية، إلى الجمع في إطار واحد بين نصوص نظرية وأخرى إبداعية لرصد تصور شمولي عن الظاهرة المسرحية. في هذا الإطار، يلاحظ أن مقطعا من مسرحية "مدرسة النساء" لموليير Molière، مثلا، يشكل نصا مؤسسا للمنظور الكلاسيكي للمسرح يوازي نصوصا مأخوذة من "خطابات" كورناي، كما أن مسرحية  ديدرو "اللقيط" توازي أهيمتها التنظيرية ما كتبه هذا المؤلف في "حوارات حول اللقيط" أو في "مفارقة الممثل".

وإذا كانت بعض الكتابات - بحكم طبيعتها التجميعية التوثيقية - تكتفي بوضع نصوص نظرية وإبداعية في سياق واحد، فإن كتابات أخرى ذهبت إلى حد استخلاص أشكال للنظرية المسرحية بالنظر إلى نوعية الخطاب الذي تبلورت فيه سواء كان تنظيريا أو إبداعيا.

ولعل هذا ما قام به أحد الباحثين المعاصرين هو جان جاك روبين Jean Jacques  Roubine الذي أكد على ضرورة التمييز في تاريخ نظرية المسرح بين النظرية الصريحة والنظرية الضمنية.

فالنوع الصريح يصاغ عبر مجموعة من النصوص المختلفة: مقالات، أبحاث، مقدمات، توجيهات .. إلخ.
وهو في الغالب، ذو نزوع شمولي يصوع نظرية ينبغي أن تكون صالحة لعصر بكامله ولطبقة اجتماعية بكاملها (كالنوع الجاد مثلا، بالنسبة لبرجوازية النصف الثاني من القرن 18، أو الدراما الرومانسية بالنسبة لجيل "الفنان" الإصلاحي )، أو صالحة، بالأحرى، إلى الأبد (كما هو الشأن بالنسبة للأرسطية التي عاد إليها علماء القرن 17).

أما النوع الضمني، كما تشير إلى ذلك تسميته، فيتجاوز الصياغة الخطابية.
فهو موجود لكن الإمساك به صعب كما أنه لا يصلح إلا لصاحبه.
أنظروا إلى ماريفو: فمسرحه يتضمن تأملا نظريا حول الخصائص الدراماتورجية الأساسية المكونة له كالشخصية، والحدث، والهزلي، والحوار ..إلخ.

إلا أن مؤلف "الأسرار الكاذبة" لم يضع، إلا بالصدفة، أي فكرة حول هذا الموضوع. لذا، علينا أن نعمم ونستخلص من مسرحياته نظرية افتراضية مع ما تفترضه هذه الطريقة من هامش للتأويل والخطأ.

  إن ما قاله روبين عن ماريفو هنا، يشير إلى ظاهرة تضرب بجذورها في عمق تاريخ الكتابة المسرحية، ويمكن البحث عن بداياتها في المسرح اليوناني نفسه.

إن مسرحية "الضفادع" لأرسطوفان تؤرخ للصراع الذي دار حول عرش التراجيديا، وتعبر بالتالي عن منظور مؤلفها إزاء هذا النوع الدرامي؛ أو بعبارة أخرى إنها تتضمن - إلى جانب عالمها المتخيل - نظرية ضمنية حول التراجيديا.

إن هذه الظاهرة الموغلة في القدم، والممتدة عبر المسار التاريخي للكتابة الدرامية، لم يكتب لها أن تنال حظها من الاهتمام والبحث إلا مع بداية عقد الستينات من هذا القرن حيث خصها باحث أمريكي هو ليونيل أبيل بدراسة جادة نحت من خلالها المصطلح المعبر عن هذه الظاهرة، ألا وهو مصطلح الميتامسرح Métathéâtre.

 إن هـذا السبـق الـذي سجلـه النقـد الأمريكـي، بخصـوص الاهتمام بهـذا الموضوع والذي تؤكده دراسات أخرى جاءت بعد دراسة أبيل اكتست طابعا أكثر خصوصية، يكشف عن مفارقة لا سيما وأن هذه الأبحاث تزامنت مع فترة كانت خلالها الدراسات الشعرية البنيوية في أوربا عموما وفي فرنسا على وجه الخصوص، تضع في صلب اهتماماتها مختلف مظاهر التفاعل النصي بما فيها ظاهرة الميتانصية Métatextualité باعتبارها ظاهرة عامة موجودة في مختلف الأجناس الأدبية كالرواية والشعر والمسرح.

باستحضار هذا المعطى، يتبين لنا مشروعية السؤال التالي: كيف نفسر تأخر الاهتمام بالميتامسرح في النقد البنيوي إلى حدود بداية عقد الثمانينات، في الوقت الذي كان النقد الأمريكي قد قال كلمته في الموضوع منذ بداية الستينات؟

 نعتقد أن السر في هذه المفارقة لا يكمن في التفاوت الزمني بقدر ما يرتبط باختلاف السياقات الثقافية، وبالتالي باختلاف زوايا النظر إلى الموضوع. فأبيل  ركز في دراسته على البعد الميتافيزيقي لظاهرة الميتامسرح مبينا أنها تستند على رؤية مفادها أن الحياة  مسرح وأن الإنسان  ممثل.

وبالاستناد إلى هذه الرؤية - يقول أبيل - فإن الدراما الحديثة لا يمكن أن تتحقق فيها التراجيديا، لأن الميتامسرح جاء كي يعلن موتها.
إن هذه المعالجة الفلسفية تغيب، إذن، المظهر النصي البنيوي  للظاهرة.

لهذا لا نستغرب أن يكون النقد الذي يوجهه  باتريس بافيس  لأبيل مرتبطا بهذه  الزاوية البنيوية حيث يقول : "إن هذه الأطروحة التي طورها ل. أبيل (1963) لا تعمل سوى على توسيع نظرية المسرح داخل المسرح القديمة، لأنها  تبقى جد مرتبطة  بدراسة موضوعاتية للحياة باعتبارها مسرحا ولا تستند، بما فيه  الكفاية، على وصف بنيوي للأشكال الدراماتورجية  وللخطاب المسرحي".

 بالمقابل، نلاحظ أن اهتمام الشعرية البنيوية بالميتانصية ظل، في الغالب، مرتبطا بمجال السرد، حيث شكل هذا الأخير الموضوع المميز لهذه الشعرية.

ويمكن القول، إن الدراسة الأولى عن الميتامسرح في النقد الفرنسي هي تلك التي أنجزها مانفريد شميلنغ في بداية الثمانينات، والتي عالج فيهـا الميتامسرح.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال