التبشير بالموت في مجموعة (وإذا الأمسُ آتٍ غداً) لإبراهيم المشني الغامدي



- يُعلن الكاتب إبراهيم المشني الغامدي في مقدّمة مجموعته (وإذا الأمسُ آتٍ غداً) الصادرة بطبعتها الأولى عام 1424هـ - 2004م قائلاً: (الأمس بالنسبة لي هو حاضري ومستقبلي الذي سأظلُّ رهنَ أحداثه والذي سيدخلُ في كلِّ زاويةٍ من زوايا الأيام، وكل أيامي القادمة، أستطيعُ أن أقولَ عنها الأمس الآتي).

وهو بهذا الإعلان يحكمُ على نفسه بالموت فنياً وفكرياً.
ما أريد أن أستبق الإشارة إليه أن الكاتب لم يختر الماضـي لينطلق منـه لبناء (الرؤيا) متجاوزاً قُبْـحَ (الرؤية)، كما هو الحال لدى شعراء كثيرين.

إن مشكلته أنه اختار الماضي ليدفنَ نفسه فيه، لاليتجاوزه، أو ليتخذه أساساً في بناء الرؤيا.
- تتكون المجموعة من (55) نصاً، جُلّ عناوينها يبشّرُ بالموت، وأقلّها يدعو إلى اليأس والقنوط والإحباط.

ومـن عناوين النصوص الدالة على ذلك: (بساطُ اليأس، جدارُ الأمس، هو الحزنُ كما هو، نقابُ الأمس، مراكبُ التيه، مايقلقُ رأسي، مدادُ الأمس، كتابُ جدّي، أنا والموت، النهايةُ المريرة، البؤساء، فصلُ الخريف، فكرٌ وألم، قتلى وأسرى، شمسُ الغروب، طريقٌ للوراء، سجلاّتُ البكاء).

وقد انعكست هذه العناوين على مناخات النصوص ومفرداتها وتراكيبها فجاءت تلك المناخات ذات طابع (عدمي).
وكأن الكاتب يُرغم المتلقي على دعوةِ عزاءٍ في بيتٍ مهجور أو مقبرة.

وعلى الرغم من أن كل المجموعة تسير في هذا السياق المأساوي، وتسعى لتأكيد الألم، وتبيّن أسبابَه وتُعيدها إلى الواقع، لكن المشكلة برأينا ليست في الواقع، وإنما في وعي الشاعر نفسه الذي اتخذ سلفاً من الماضي مخبأه وملاذه؛ لذلك فالألم المنعكِس في المجموعة مفتعل وليس أصيلاً.

والشاعر - من خلال تقوقعه في الماضي - أوقعَ نفسَه في المآزق التالية: 

أولأً:
البكاء المستمر على الماضي لأنه - برأيه - ذهب ولن يعود، وهذا ما عكسته العناوين ومناخات النصوص. يقول:
ونظلُّ نذكرُ في الحياةِ عناءَنا -- ونبوحُ نزْفاً مؤلماً منذُ الصغرْ
وقوله أيضاً:
الليلُ يبوحُ بأسراري
والتيهُ يلاحقُ أفكاري
قد ملّ القلبُ مرافقتي
ماكانـت تهدأُ أسـفاري
أيامٌ بؤسٌ وضياعٌ
وسـرابٌ يخدعُ أنظاري

ثانياً:
تمسّكه بالعمود، وعدم قدرته على تجاوزه، لأنه بالنسبة إليه مقدّس، أو أنه لايرى سواه.

ولذلك لم تستطع المجموعة أن تتجاوز الأنماط المألوفة القديمة، بل لم تستطع الارتقاء إليها، فظلّت في فلكها، ودونها محاولةً استردادها.

ثالثاً:
غياب الرؤيا، والحكم المسبق على إفلاس المستقبل كما الواقع، ورفضه لهما لمجرّد الرفض.
والشاعر دون رؤيا عقيم.

يقول:
يا زماناً صارَ ذُلاً وخضوعاً
يا حياةً باعدتني وفؤادي
هل عسيتُم إن نسيتُم سوفَ أنسى
هل ظننتم أن سأغدو في انقيادِ
وأجاري كلَّ لؤمٍ وازورارِ
ويكونُ الأمرُ مني في اعتيادِ

وبما أن الكاتـب رفض الواقع ، واتجه إلى الماضي فإن الحيرة تلازمه على الدوام:
طالَ مكثي في بقائي
حائراً كيفَ انزوائي
كلُّ نجمٍ في مسائي يذكرُ الأمسَ القريب

خامساًً:
ضعف الفكرة إلى جانب ضعف البناء.

فالشعر ليس مجرّد صور فنية مفرغة من محتواها، وإنما هو ذلك التكامل الخلاّق بين كافة العناصر الذاتية والموضوعية، البنائية والدلالية.

من هذا المنطلق لايوجد شيء في النصوص يستحق الوقوف عنده، يقول:
الحبُّ حقيقةُ ما يجري
لولاما يكبتُ أنفاسي
صورٌ شتّى أحملُها في ألبومِ خيالِ الإحساسِ
تلقاني ليستْ مدركةً أقوالاً تعصفُ بالناسِ
راحلتي ليلي ونهاري
والدنيا تُعلنُ إفلاسي
سأجوبُ الشعرَ وأوزاني
وساكتبُ ما يُقلقُ راسي

سادساً:
النثرية (أنظر: 138 حتى  158)، والتسجيلية (سمة عامة لجميع النصوص) و(غياب التنوّع 110)، وشاهدنا على ذلك قوله:
القلمُ سيكتبُ آلامي
فالحبرُ تأوّهَ في قلمي
والدفترُ في لحظةِ إحساسٍ
يقلِّبُ صفحةَ تاريخي
يا قلمي ماذا أعددتَ لرفِّ الكتبِ المشحون؟
ها أنتَ تغادرُ في سطري أزمانا
قالتْ أحرفهُ مهلاً ، سنراكَ قريباً في الصفحات
يساومكَ القلبُ المسجون
أسكتْ لاتبعثْ صوتاً يسلبُكَ المأوى

سابعاً:
الاجترار. إن معظم النصوص تجترُّ نفس الأفكار، ونفس الأحاسيس.

وكان من نتيجة ذلك اجترارٌ في المفردات التي تتكرّر في أغلب النصوص، وكذلك التراكيب، ونظام البناء الواحد، والموسيقى والإيقاع.
والمجموعة تدور حول المفردات التالية ذات الدلالة الواحـدة: (الشرود، الانطواء، الفراغ، الحيرة، الوحدة، المأساة، الألم، الهزيمة)، يقول:
رحلوا وكلّ القلبِ في جسدي ألمْ
تركوا منازلهم فجاورني السَّـقم
حزنٌ ببابي ليتَ شعري أنني
نحو المدينة راجلٌ وقتَ الظُلَمْ
وانظر كذلك (190).

ثامناًً:
بما أن الشاعر اتخذ من الماضي ملاذاً ومنطلقاً، فإن الفعل الماضي هو السائد.

ولذلك يقلّ لديه التنوّع في الزمن والأفعال الدّالة على ذلك، يقول:
كنا معاً بالأمسِ نلهو جالسيْن
على بساطي عندَ مفترقِ التلال
كان الحديثُ له حنينٌ يُستقى
من قلبِها وأرى العيونَ لها جمالْ

أو قوله:
كنت صدقاً وصفاءً ونقاءً
كنت رمزاً في مجيئي وذهابي
ما وجدتُ السيرَ يحوي من يؤاخي
ما وجدتُ السيرَ إلا في ابتعادِ

ويجمع النص التالي بين جميع المآخذ التي ذكرناها آنفاً:
 أيا مليارَ أمتِنا دمائي
تناديكُم فمَن يَفدي دمائي
أراني اليومَ والأقصى أسيرٌ
وقد ألِفتْ مآذنهُ بكائي
فلاتجديكَ يا أقصى دموعي
وما يجديكَ يا أقصى غنائي
ألا يا أمتي ثوري جهاداً
أيا مليارَ أمتِنا سئمنا
وعوداً تحتوي كلَّ افتراءِ
أيا مليارَ أمتِنا كفانا
فإن الصمتَ أجملُ من هراءِ

يتضمّن هذا النص شعاراتٍ عريضة.
والشعر - على الأغلب في مثل هذه المواقف - لايرقى إلى مستوى الحدث.

تاسعاًً:
وقعت المجموعة ضحية لقراءات كاتبها.

من ذلك مثلاً نَسْخُ الكاتب لقصيدة (قارئة الفنجان) لنزار قباني، وهو تناص مبتذل يدلُّ على إفلاس الشاعر: وستبكي يوماً يا قلبي
ليعودَ الحزنُ كما كانا
وستعرفُ أنكَ لن تنجو
وسيبقى همُّكَ أزمانا
وسترحلُ حتى لايبقى
في النفسِ حنينٌ أعيانا

عاشراًً:
كان الكاتبُ يقدّم نصوصَه بمقدمات نثرية يشرح فيها محتواها.

حادي عشر:
ذيّل الكاتب المجموعة بصفحات من النثر ضمّنها عدداً كبيراً من الأفكار الجاهزة والنصائح والحِكم.

ونعتقد أن الكاتب أحس أنه لم يقل شيئاً ذي قيمة في النصوص الشعرية التي كتبها، فحـاول التعبير عنه نثراً.
انظر الصفحات من (222 حتى 241).

خلاصة الكلام:
إن الكاتب إبراهيم الغامدي لم يكن موفّقاً كشاعر في هذه المجموعة، ولم يكن ناجحاً في التعبير عن ذاته أدباً.