هناك محاولة لرسم إطار جديد لمنظومة تعلّم اللغة العربية, ويقتضي هذا الإطار الجديد ضرورة إعادة النظر في منظومة تعلّم اللغة.
فإذا أردنا الحصول على المخرجات التعليمية المناسبة لغوياً، التي تتمثّل في خريجين قادرين على الاستماع مع الفهم، والتحدّث بطلاقة، والكتابة بصحة وسلامة وجمال، وقادرين على القراءة، والفهم، والتحليل، والتفسير، والنقد، والتقويم، والتذوق، وقادرين على التفكير السليم، وإعادة صياغة الفكر، وتوليد المعاني والإبداع,... إذا أردنا تحقيق ذلك علينا إعادة تنظيم المدخلات التعليمية في منظومة اللغة، التي تقتضي وجود معلم للّغة العربيّة على درجة عالية من الكفاءة.(1)
كما ينبغي أن تعلّم اللغة بطريقة متكاملة، من خلال النصوص العربية الجميلة: قرآناً، وحديثاً، وشعراً، ونثراً.
كما يقتضي اصطناع الجو المدرسي اللغوي الصحي, الذي يحتضن اللغة العربية، ويجعلها في صميم الفؤاد.
ويضيف ابن خلدون بهذا الشأن أنه "بعد أن انتهى العهد الذي كان فيه تربية الملكة اللسانية طبعاً وسليقة، فإنه لابد من اصطناع المناخ اللغوي اصطناعاً متعمداً، واتخاذ الوسائل التي توصل إلى إجادة الملكة اللسانية، فيقول: "ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها، أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم (العرب) القديم، الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب، في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولّدين أيضاً في سائر فنونهم، حتى يتنزّل لكثرة حفظه لكلامهم، من المنظوم والمنثور، منزلة من نشأ بينهم,... فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتها رسوخاً، وقوة... وهكذا يجب أن يكون تعلّمها..." (2)
كما يرى أن النصوص المختارة للدراسة والحفظ يجب أن تبثّ في ثناياها مسائل اللغة والنحو، بحيث يتعرّف الدارس من خلالها إلى أهم قوانين العربية، ويؤكد أن الملكة لا تربى من خلال نصوص تحفظ من دون فهم؛ فالملكة لاتحصل من الحفظ من دون الفهم.(3)
لكن كيف يتم الانتقال في تعلّم اللغة من الموقف المصطنع إلى السليقة والطبع؟
كيف لنا أن نحول تعلّم اللغة تلقيناً من خلال المدرّس، إلى تعلّمها ذاتياً من خلال ممارستها استماعاً، وتحدثاً، وقراءة، وكتابة؟
هذا سؤال كبير. وهو بالتأكيد يحتاج إلى تحولات كبيرة من أهمها:
- أننا نحتاج إلى تشريع بشأن استخدام غير العربية في تعليمنا وتعلّمنا، في مكاتباتنا الرسمية وإعلامنا وفنوننا وآدابنا... وقد يسبق هذا عقد مؤتمر قومي عربي من أجل اختيار أنسب النماذج اللغوية، لتلبية مطالب اللغة العربية، تنظيراً، وتعليماً، وبرمجة، ومعالجة آلية.
- نحتاج إلى إعادة النظر في تعليم اللغة التلقيني من خلال المدرّس, والتركيز على التعلّم الذاتي للّغة، الذي يساهم في دفع الفرد إلى التعلّم المستمر مدى الحياة، وتلبية مطالب المعرفة اللغوية المتجددة.
- يحتاج تعلّم اللغة ذاتياً وتعلّمها مدى الحياة عبر الأنترنت إلى جهود غنية مستفيضة، في مجال علم اللغة النفسي، وفي مجال إعداد المناهج، وتصميم البرمجيات التعليمية. "فنحن بحاجة إلى برمجيات تعليم للّغة العربيّة، برمجيات تعلّم ذكية, تستخدم أساليب الذكاء الاصطناعي، القائمة على نظم معالجة اللغة العربية آلياً من مثل: (الصرف الآلي، والإعراب الآلي، والتشكيل الآلي، ونظم التلخيص، والفهرسة الآلية).(4)
- نقل الوعي بأهمية اللغة من مستوى النخبة إلى مستوى العامة، ولابد من أن يتمّ ذلك بالتنسيق مع الإذاعة، والتلفزيون، والصحافة، ومواقع الأنترنت، فضلاً عن دور الأسرة والمدرسة.
ويمكن أن يتمّ ذلك من خلال الثقافة العلمية اللغوية, التي تتمثّل في الموضوعات الآتية: (أهمية دور اللغة في عصر المعلومات، أعراض أزمتنا اللغوية، تراثنا اللغوي، كيفية توظيف اللغة في حياتنا اليومية، أو ما يسمى بالإرشاد اللغوي؛ موقع العربية على خريطة اللغات العالمية؛ أثر التعلّم بغير العربية في هجرة العقول العربية؛ أثر التعلّم بغير العربية في التفكير والإبداع؛ نظم اللغة العربية آلياً؛ علاقة اللغة بفنون الإبداع المختلفة، علاقة اللغة بالعقيدة، والأخلاق، والتنظيمات الاجتماعية؛ علاقة اللغة بالحرية، والديمقراطية..).
ومن منظور معالجة اللغات الإنسانية آلياً بواسطة الحاسوب، أثبتت العربية أيضاً جدارتها لغة عالمية, فبفضل توسّطها اللغوي، يسهل تطوير النماذج البرمجية المصمّمة للّغة العربيّة لتلبية مطالب اللغات الأخرى، وعلى رأسها الانجليزية، فقد أثبتت بحوث د. نبيل علي إمكان استخدام نظم الإعراب، والصرف الآلية المصمّمة للغة العربية في مجال الانجليزية"(5) فالعربية لغوياً، وحاسوبيا، يمكن النظر إليها بلغة الرياضيات الحديثة على أنها فئة عليا superset، تندرج في إطارها كثير من اللغات الأخرى، كحالة خاصة من هذه الفئة العليا.(6)
(1) د. مدكور، أحمد علي (اللغة وثقافة التكنولوجيا)- القاهرة/ مصر- الفصل الرابع- ص (171-194).
(2) (ابن خلدون (المقدمة) بيروت- دار القلم- ط1- 1978.
(3) د. مدكور, علي أحمد (مناهج التربية وخيارات المستقبل)- الفصل الخامس- ص(226).
(4) ابن خلدون (المقدمة)- بيروت- دار القلم- ط1- 1978.
(5) علي، نبيل (اللغة العربية والحاسوب) – القاهرة – 1988.
(6) د. مدكور، علي أحمد (التربية وثقافة التكنولوجيا) – القاهرة/مصر- ط1- الفصل السابع- ص (244 –316).
التسميات
لغتنا