مأساة العام تمكن في أنه معتوهٌ وأعمى في مجموعة (تقولين) لمحمود بن سعود الحليبي

في مجموعة محمود بن سعود الحليبي (تقولين) تبدو مأساة العالم في غياب الإحساس أو القدرة على التمييز الصحيح بين الجميل والقبيح، بين الخير والشر. ففيه تتساوى الأشياء، والمتناقضات، فلايهم أن تكون الحلول إيجابية أو سلبية.
والسبب الرئيسي في ذلك أن العالم أصبح معتوهاً وأعمى:
سيانَ ولادة أفقٍ رحبٍ في زمني
أو مولدِ بئرٍ مشبوهة
باطنها في علمِ الغيبِ
في عرضِ الطرقاتِ الملتوية
أبصرتُ العالم َ معتوهاً
يتمرّغُ في أوحالِ العيب
لا يدري أنجبتِ الأرضُ الخصبةُ ورداً أم لِفتاً؟
لافرقَ
العالمُ أعمى في زمني

وقد انعكست نتائج ذلك علـى الفرد فأصبح يعيش  مأساتي موت الأنا وموت الكلمة:
أمُتَّ شعري أم ماتتْ أحاسيسي -- أم غِيْضَ زيتُكَ فاسترختْ فوانيسي

ولذلك نرى الفرد دائم الحزن ، بل أصبحَ يستمتع به ، ويدافع عنه (26):
خمسٌ وعشرونَ  لكن هدَّني  السَّأَمُ -- وأشعلَ الرأسَ مني الشيبُ والهرمُ
خمسٌ وعشرونَ لم يعزفْ بها فرحي -- لحناً من الأنسِ لم يعبثْ به ألمُ

لكن على الرغم من بشاعة العالم يحاول الفرد أن يقيم توازناً بين واقعه وبين ما يريد تحقيقه ضمن إطار الرؤيا؛ لأن أحلامه تتجاوز حدود المكان الضيق لتشمل العالم كله:
يا شعرُ كلُّ بقاعِ الأرضِ خارطتي -- ولاتُقاسُ حدودي بالمقاييس

وتتلخص الرؤيا عند الكاتب في خمسة أركان، أولها (الطفولة النقية) حيث يخصّص ثلاثة نصوص للطفولة،ويشتق منها مفاهيم: البراءة والنقاء والطهر (43-44-46)، وثانيها (حرية الكلمة والفرد والمجتمع)، وثالثها (الحب)؛ وقد ركّز فيه على المرأة / الطرف الحيوي المؤثر فـي إقامة الحب المتوازن، فأكدَ جمالها عبر مستويين: المستوى الروحي، ومثّـل له في الحياء، والمستوى الحسي، ومثّل له في العيون، يقول:
عيناكِ وردتانِ نامتا على وسائدِ الخجل
عيناكِ نغمتانِ تسرحانِ في قيثارةِ الأمل
من رعشةِ الحياءِ فيهما أكادُ أسمعُ الغناء

ولا ينسى الكاتب أن يُبرز فروسيته في هذا المجال كقوله:
إني تعوّدتُ صيـدَ  الظبي نافرةً -- ما أتفهَ الصيدَ للقنّاصِ إن قرُبا
ما أعذبَ العشقَ محروماً صويحبه -- يقبّلُ الأرضَ والجدرانَ والقتبا

ورابع أركان الرؤيا (الإيمان بالله).
وقد كان الكاتب يربط دائماً بين الحب، والإيمان والخير:
ورَبّيتِ في نفسي فضائلَ جمةً -- فأحسستُ أن الخيرَ عندي ههنا
إذا ماغـدا شرعُ الإلهِ لنا أباً -- فلا ريبَ في الجزيرةَ أُمَّنا

وخامس الأركان (الحفاظ على وطن مستقر آمن):
همستُ لها غَيْرَى؟ ومِنْ حبِّ موطني -- فقالت معاذَ اللهِ أن أركبَ الكِبْرا

لقد سعى الكاتبُ للتنويع في الشكل الفني، فقد استخدم الشكل العمودي (مجمل المجموعة)،ونظام التفعيلة ثمانية نصوص: (17-24-31-44-466973-75)، ونظام الموشّح في نص واحد: (80).

ولاريب أن لهذا التنويع فوائد جمّة لو استغلّه الكاتبُ جيداً، لكن المشكلة أنه تعامل مـع نظامي التفعيلة والموّشح بنفس الوعي الجمالي التقليدي الذي كتب فيه النظام العمودي، مما أدى إلى وجود قلق فني كبير عانت منه النصوص المذكورة.

ومن حيث البناء المعماري تجري نصوص المجموعة على نسق القصيدة العمودية.
ومما يؤكد ذلك الأمور التالية:

أولاً- تعدّدت موضوعات النصوص، واتخذت من النمط الجاهلي أنموذجاً لها، فهي تبـدأ بالنسيب والغزل ثم تنتقل إلى الموضوع الأساسي كالمديح، والعتاب، والهجاء، وغيرها، أنظر: (53 و56و60و63و66و13).

وقد ساهم ذلك بفقدان تلك النصوص إلى الوحدة العضوية؛ أي إلى الترابط الدلالي والجمالي.
أعني لم تسـتطع النصوص أن ترسم لنا تجربة متكاملة في مناخها، ولذلك جاء الإحساس الجمالي متقطعاً وأثره كان ضعيفاً.

ثانياً- قَصَرَ الكاتبُ بناء الصورة الفنية على التشبيه والاستعارة والكناية، إلى جانب أن مادة الصورة كانت غالباً مستجلبةً من الشعر القديم.

والخطورة هنا لاتنبع من هذا الأمر فحسب، وإنما لأن طبيعة هذا النمط من الصور يأتي مستقلاً، وغالباً ما يأتي معزولاً عن سياقه.

وهذا - ضمن المنظور الجمالي - يُفقد الصورة خصوصيتها وتفرّدها، من ذلك العبارات التالية: (عيناكِ وردتان، غزالتي، دوربُ أمانيكِ نخلٌ، سـياط، الرمشُ سهمٌ، هي كالغصون، تبسّمي كنسمةِ الهلال، يرِفُّ كالعصفور، ينهدُّ كالبناء، ينهزمُ كالجيش ....).

ثالثاً- تقاطعَ المعجمُ الشعري والمفردات القديمة، مما خلق مناخاً غريباً على العصر الذي كُتبت بـه تلك النصوص، من ذلك مثلاً: (اللواعج، الغزالة، القوس، السِّهام، الجآذر، الظبي، أطياف، القريحة، جوانح، بُثين، السراب، هنـد، رباب...).

رابعاً- كان الكاتب يتناول موضوعَه من نفس الزاوية التي كان الشاعرالقديم يتناول بها الحالة التي يريد رسمها.
وقد تبدّى ذلـك من خلال الاعتماد على الأشكال البيانية، ومطالع النصوص كقوله:
أعاذلتي أسأت الظن عفواً -- فلا هنداً عشقتُ ولا ربابا
أو قوله:
صددتِ وما وصلتِ ولو لماما -- كأنكِ قدتعودّتِ الخصاما

وهذا يذكرنا بقول عمرو بن كلثوم:
صددتِ الكأسَ عنّا أمَّ عمروٍ -- وكانَ الكأسُ مجراها اليمينا

خامساً- وقد أدّى كلُّ ذلك بالكاتب إلى أن يتناول موضوعه على سبيل الحقيقة.
فلافرق بين مايكتبه أحيانا وبين النثر.
ولعل ذلك من نتائج المنهج الذي ألزم به الشاعر نفسه، يقول:
غزالتي أجلْ
إني رأيتُ فيكِ أعذبَ العيونِ أجملَ المقَلْ
قرأتُ في عينيكِ أحلى قطعتَي غَزَلْ
عيناكِ حسناوانِ
فانشري عليّ منهما نسائمَ الصفاءِ والوفاءْ
إني لأعشـقُ العيون ياحبيتي وفيّةً
وأعشقُ التَّسْفارَ في مواسمِ الصّفاءْ
والسؤال هنا: بماذا يختلف هذا الكلام عـن أي حديث يجري فـي الهاتف بين اثنين؟

سادساً- ومما يُؤخذ على الكاتب أيضاً اهتمامُه - أحياناً - بالشعارات الكبرى التي تُبعد مايقوله عن المصداقية.
يقول في نص (حزن العصافير):
وبغدادُ أنتِ وصفصافةٌ
وحولكِ ينمو كما الفطرِ. يكبرُ جنكيزُ خان
فأنى اتجهَ فخطوكَ نهبٌ لزحفِ التتار
وإنك أنثى
وفرعون هاجت براكينُه
زلازلُ أنثى
أجل أنتِ أنثى
وفرعون هدّت أساطينَه
شجاعةُ أنثى

إلى جانب الشعارات حشرَ الكاتب مجموعة من الرموز التاريخية دفعة واحدة، وحشر الأنثى بينها.
سؤالي هنا: ما علاقة الأنثى بكل هذه الرموز؟

وفي نص آخـر تطلب الحبيبة منه أن يحبّها، لكنه يرفض؛ لأنه سوف يذهب  ليقاتل في البلقان (ص21).

سابعاً- كان الشاعر يفتتح جميع النصوص بمقدمات نثرية ساهمت بمصادرة الإحساس لدى المتلقي.

ما نودّ قوله التأكيد عليه - بناء على ماسبق - أن المطلوب اليوم من النص الإبداعي والشعري بخاصّة أن يقدم قراءة مغايرة للعالم تختلف عن الطريقة التي كان الشاعر القديم يقرأ العالم بها.

إن المشكلة في الذين يتبنّون الشكل العمودي أنهم ما زالوا يصرّون على قراءة العالم بنفس الطريقة التي كان الشاعر القديم يقرأ بها عالمه على الرغم من أن العالم تغير، والمعايير اختلفت، والمقاييس الجمالية تباينت، وتباين معها الوعي الجمالي الذي يحكم موقف الإنسان المعاصر من العالم.

ولم يعد من المقبول أن يعيش إنسانُ اليوم بأحاسيس إنسان آخر عاش قبل ألف عام أو أكثر، ويتقمّص وعيه، وينتحل تجربته.
ربما لهذا السبب لم يستطع الشاعر أن ينمذج تجربته الفنية ومن ثمّ يعممها.

ونشير أخيراً إلى أن ثُلث نصوص المجموعة كُتبت لمناسبات معلومة سابقاً، ولأنها كُتبت كذلك، فهي تخرج من الشعر، أنظر النصوص التالية: (39 -53- 56 -60 -63 - 66).
أحدث أقدم

نموذج الاتصال