تاريخ (الذات) يبدأ من تاريخ (الأنا) في مجموعة (كُنَّـا) لعيد الخميسي

يُعلنُ عيد الخميسي فـي مجموعته (كنا) وحدته واغترابه، وعدم انتمائه إلى شيء.
والمعادلة عنده سهلة للغاية؛ فهو يؤكد أن الماضي لم يصنع له شيئاً، والحاضر خانق، والمستقبل غامض، إنه وحيدٌ وكل ما حوله ينذرُ بالموت.

وبناء على ذلك لايعرف ماذا يفعل؟ يقول:
ووحيداً يتعثّرُ إذ يخطو ووحيداً والرملُ الرملُ
جدي كان وراءَ النوقِ يسوقُ الكثبانَ
فلم يتركْ شجرةَ عائلةٍ نسقيها، وأبي مازالَ يبيعُ تراباً في برحتهِ..
وقريباً سننامُ، النومُ: مدينةُ أطفالٍ غيرِ بني عمّي، وبيوتٌ تُشبهُ بيتي، أنصتُ كشجيرةِ رُمّانٍ للعشبِ النابتِ..
أفلم يجدِ الماءُ له ملجأً غيرَ الرملِ
فماذا ألوي أن أفعل؟

لهذا فالرؤيا - في المجموعة - غامضةٌ، والمستقبل يحجبه غبارٌ الرمال الكثيف (سوفَ أحن إلى من / وأحنو على من / وأرنو لماذا؟).

وعلى الرغم من عدم وضوح الرؤيا واتهام الشاعر للماضي البعيد بأنه لم يصنع له شيئاً، فإنه يجد البديل في الماضي القريب (ماضي الأنا)، وكأنه لا يعترف إلا به.

فهو كثير الحنين إلى الأصدقاء الذين كان يلتقي بهم في الشارع والمقهى، إلى جانب ذلك يضع الحب أساساً لبناء الرؤيا، فهو أقوى من المعدن لأنه يهبه الدفء:
عصفورٌ يهبُ إلى المعدنِ دفَْ أصابعهِ
منذهلٌ يتركُ لجناحيهِ بأن تسقط
أم تأخذهُ الغبطةُ
كغريبٍ ينتظرٌ مهاتفةً
ويستكمل الكاتب حقلَ الرؤيا بعنصرين آخرين هما السلام والطمأنينة.

إن مجموعة الخميسي تعتمد على الصورة الفنية في تشكيل الموقف الشعري، ولذلك فهي تفرض على دارسها أن يتناولها من هذا الزاوية.

فكل قصيدة في المجموعة تتشكّل من صورة كلية تكونها مجموعة من الصور الجزئية.
وعبر التناغم بين الصور الجزئية تتحقّق وحدة الصورة الفنية ومن ثم القصيدة.

وهناك في المجموعة أكثر مـن خط يدعمُ قوة الإيحاء فيها، مثل الخط الدرامي والخط السردي.
وعبر هذين الخطين ومن خلال عناصر الطبيعة وتبادل الحواس والتكثيف، وعناصر الذات تُعلنُ القصيدة عن نفسها.

تتشكّل الصورة الفنية في المجموعة مـن عناصر الطبيعة والمكان والألوان الخافتة / المنطفئة.
ومن سماتها التكثيف والغموض الفني، وكل ذلك ينسجم وطبيعة الحالة التي يشكّلها الكاتب:
آخر عَرَباتِ الليل مضت
لم تَدهَسْ شيئاً إلا أنفاسَ الأشجار
الكلمات تركناها تضجر
بينَ كراسي المقهى
في البيتِ سأغلقُ صدري وأنام
الأحلامُ مواربةٌ دوماً
كصباحٍ يَطْمُنُ تحتَ النافذةِ
نسينا أن نأخذَ من فوقِ الطاولةِ
أصابعَنا
فيما بعد سآخذُها

ومن ذلك قوله أيضاً: (لا أدري كيفَ احترقَ فراشي / البارحةَ مشيتُ وحيداً في صحراء / وكانت شمسٌ تثغو لا تتبعني).
إن هذا النص يذكرنا برومانسية رامبو من حيث الانتماء إلى المناخ، وشعر السبعينيات من حيث البناء المعماري .

وقـد اعتمدت الصورة أيضاً على النظام المقطعي أو (الصورة اللوحة)، ومن ميزات هـذا النمط أنك لا تستطيع أن تحذف أي سطر منه، إلى جانب أنه يهتم بما هو يومي وجزئي في الحياة اليومية. ولعل ذلك ينسحبُ على معظم نصوص المجموعة.

ومن ميزات الصورة أيضاً أنها أحياناً تغيّب حدود المكان مما يغنيها ويوسّع من آفاقها ويترك للمتلقي حرية التخيل، والمشاركة في صياغة الموقف:
تتركُ الياسمين
تتركُ الكلماتِ على جبلٍ
في دمكِ
والأغاني تسِحُّ خلال شقوقِ الجدار
وكنتَ تركتَ الحقيبةَ ملأى وجوهاً
وكلُّ الوجوهِ سفرْ

ومن ملامح الصورة: الحسيةُ، والتشخيص.
وهذه ميزة تُحسب للمجموعة لأن الفن يعبر عن وحدة الذات والموضوع بالصور.
ولعل سبب استمرار تأثير الفنون أنها تُشكّل في ذهن المتلقي فضاء وحيزاً سببه الأساسي الصورة:
دائماً حين أرغبُ في الكتابة، أو حين يَطرقُ ليليَ طفلٌ يتصببٌ عرقاً
لا أمسحُ عن نافذتي المغلقةِ زجاجاً
سأبعثرُ أدراجي بحثاً عن قلمٍ
القلمُ الأرزقُ إياهُ
فيما طفلٌ آخرُ يَقْلِبُ فجراً وجهُ فراشٍ مبتلّ
يسحبُ بطانيتَهُ الصوف
 يعـود، ينامْ

ومن الأشياء اللافته في الصورة استخدامُ أسلوب السرد في نسيجها، ويكاد هذا الأمر ينسحبُ على معظم النصوص .

وأيضاً خلع سمات الطبيعة على الإنسان لإعطاء الصورة آفاقاً متنوعة وعميقة: هذه الضلوعُ غصونٌ كنتُ جرّدتُها من وريقاتها
نحناتُ غريبٍ، طرقاتٌ
أناسٌ نسيتُهم
يخصفونَ دماً
شهقةٌ قَلَّما قُلتُها
دمعةٌ لم أُصعِّدْ خُطايَ لها
وأصابعُ يومٍ يموتْ
وأنظر كذلك ص(14).

ويقولُ علـى هـذا النمط معبراً عـن اغترابه: لاعُشبَ هنا أسفلَ قلبي، ثمّةَ أشجارٌ ماتت
ثمّةَ رائحةٌ يلفظها الشاطىء
لا تستيقظُ
في الغدِ يأتي الحطابون

ففي داخله ينمو العشب، وقد يسقط أو يتفتّحُ كزهرة فيأتي الحطابون لقطفه.
إن إضافة عناصـر الطبيعة إلى الإنسان يعمّق من آفاق الصورة، ويوسّع مساحتها المكانية، وينوّع في محتواها.

وتعتمد الصورة أيضاً على تفجير السؤال في تشكيل الحالة الشعرية:
أي عراء أكثرُ من هذا الصمتِ
وغرفتُكَ الضيقةُ
ظهيرةُ صحراءَ
وما تُشبهُ؟
مرآةٌ تتقرَّحُ؟ طيرٌ عَبَرَ أمامَ البحرِ برأسِكَ
هل تنطمسُ؟ ومن ذلك أيضاً: (وهل من جمرة إلا دمٌ / وهل إلا دمٌ يلمعُ ؟).

ولكن الملاحظ أن الكاتب لايكون موفقاً أحياناً وهو يغذُّ الخطى نحو التكثيف والإيجاز والاقتصاد في اللغة فيقع ضحيةَ الربط الفج بين المتباعـدات والرمزية الباهتة المفتعلة كقوله: (كنا نقضمُ ضجّةَ قلبينا)، فالربط بين فعل القضم والقلب - وقد جعله الكاتب فعلاً جماعياً - تركيب متنافر يؤدي حتماً إلى شعورنا بالقبح ونحن نتلقى هذه الصورة.
ومن ذلـك قوله: (قبيلَ سنينَ أحزُّ بأسناني شمساً نابتةً)، وفي نص آخر (ووجيب نساء يتوسدنَ لهاثَ البارحةَ).

ومن النصائح التي لا ينسى الكاتب أن يقدّمها إلى المتلقي قبل مغادرة المجموعة  قولهُ:
حينَ تفكّر نَـمْ
حينَ تصحو لا تنـزع أوراقَ التقويم
إنزع هذا الحائطَ
بعضُ نصائحَ يتركها السهرُ
وتركَ لنا جدي: مـن زرعَ يشيخُ فقيراً

إن مجموعة (كنا) لعيد الخميسي تسعى لمقاربة البناء المعماري السبعيني، ومناخات قصيدة النثر في تلك الفترة.
وهي لا تُخفي موهبةَ كاتبها، ولكنها كانت أحياناً تتعثّر حيث لم تستطع تجاوز ذلك.
أحدث أقدم

نموذج الاتصال