ثمة مايدل على أنّ دراسات التأثير في شكلها التقليدي قد تراجعت في أوروبا وفي الأقطار الغربية عموماً، لابل إنّ مفهوم "التأثير" نفسه (EINFLUSS / INFLUENCE) قد أصبح موضع ارتياب.
ومن يستعرض الدوريات المتخصصة في الأدب المقارن، والإصدارات الجامعية وغير الجامعية المعلقة بهذا المضمار، يجد أن مصطلح "التأثير" قد أصبح من مخلّفات الماضي، وقد اختفى من الدراسات الأدبية المقارنة إلى حدّ بعيد.
أمّا العالم العربي فإنّ الدلائل تشير إلى أنه لم يواكب تلك التطورات.
فدراسات التأثير والتأثر العربية شهدت حديثاً عصرها الذهبي، بحيث يمكن القول إنّ معظم ما أنتجه المقارنون العرب من دراسات مقارنة تطبيقية يدخل في باب دراسات التأثير.
ما تفسير ذلك؟
لماذا لم يتماش الأدب المقارن في العالم العربي مع التوجه العلمي إلى الإقلاع عن دراسات التأثير؟
لماذا تزدهر دراسات التأثير العربية، في الوقت الذي تكاد فيه تختفي في العالم بأسره، حتى في فرنسا، بلد المنشأ بالنسبة لهذا النوع من الدراسات؟
لهذه الظاهرة أسباب متعددة، أولها أنّ هذا النوع من الدراسات هو الأسهل منهجياً وتطبيقياً، لا بل إنه أوضح المناهج المقارنة وأسهلها إطلاقاً.
فهو من الناحية التطبيقية عمل توثيقي بالدرجة الأولى، يتمثل في جمع المادة التاريخية التي تدلّ وجود علاقة تأثير وتأثر بين أدب قومي ما وأدب قومي آخر أو آداب قومية أخرى.
ومن جهة أخرى فإنّ دراسات التأثير يمكن أن توظّف بسهولة في النقاشات والمعارك الأدبية والنقدية الدائرة في الوطن العربي حول قضايا أدبية كقضية الأصالة والتقليد والتبعية والمثاقفة في الأدب العربي الحديث.
إنّ الباحث المقارن الذي يستطيع البرهنة بصورة تجريبية مدعّمة بالوثائق على مدى تأثر مسرحي عربي كسعد اللّه ونوس بمسرح الألماني (بريشت) (B. Brecht)، وعلى تأثر العديد من الروائيين والقاصين العرب بأدب النمساوي فرانز كافكا (Franz Kafka)، يستطيع أن يجعل من حجم التأثير معياراً للحكم على مدى أصالة المتأثرين.
فكلما كبر التأثر قلّت الأصالة وفقاً للتصور السائد.
وللأسف فإنّ النقاد العرب يستخدمون دراسات التأثير للطعن في أصالة الأدباء العرب، والحطّ من قدرهم الإبداعي، وذلك بإظهارهم في مظهر مقلّدين للأدباء الأجانب.
وهكذا حلّت دراسات التأثير عملياً محل دراسات "السرقات الأدبية".
فالهدف واحد والنتيجة واحدة في الحالتين، ألا وهي التقليل من شأن الإنجازات الفنية والفكرية للأدب العربي الحديث، والنيل من أصالته، ووضعه في دائرة "التبعية الثقافية" و"الغزو الثقافي" و "الفكر المستورد".
ولسوء الحظ فإنّ بعض المقارنين العرب يتصرّفون وكأنهم "شرطة الأدب" التي تسعى إلى ضبط الأدباء العرب "في الجرم المشهود"، ألا وهو جرم التأثر بالآداب الأجنبية.
ترى ألا يشكّل هذا الدور الثقافي البوليسي حافزاً لإنجاز المزيد من دراسات التأثير؟
التسميات
أدب مقارن