مداعبة الصحابة بعضهم لبعض.. ومداعبة السلف بعضهم لبعض



كان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يرون في رسول الله  ص  روح الدعابة والابتسامة والمرح ، فأخذوا هذا عنه  ص  ، فكان بعضهم يلاطف بعضاً ويداعبه ..
* ذكر الهيثمي في المجمع ( 8 / 89 ) وعزاه إلى الطبراني عن قرة قال : قلت لابن سيرين : هل كانوا يتمازحون - يعين أصحاب النبي  ص  – ؟ قال : ما كانوا إلا كالناس .
* وسئل النخعي : هل كان أصحاب رسول الله  ص  يضحكون ؟ قال : نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي .
وهذه صور من مداعبة بعضهم لبعض ..
1- ذكر ابن حجر رحمه الله في الإصابة ( 3/ 185 ) في ترجمة سُوَيبط بن حَرْملة ، والإمام أحمد في مسنده (6/316 ) عن أم سلمة أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجراً إلى بصرى ومعه نعيمان و سويبط بن حرملة رضي الله عنهما وكلاهما بدري ، وكان سويبط على الزاد ، فقال له نعيمان : أطعمني ، قال - يعني سويبط - : حتى يجيء أبو بكر .
وكان نعيمان مِضحاكاً مَزّاحاً ، فذهب إلى ناس جلبوا ظَهراً ، فقال : ابتاعوا مني غلاماً عربياً فارهاً .
قالوا : نعم .
قال : إنه ذو لِسَان ، ولعله يقول أنا حُرّ ، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني ولاتفسدوه عليّ .
فقالوا : بل نبتاعه .
فابتاعوه منه بعشرة قلائص ، فأقبل بها يسوقها ، وقال : دونكم هو هذا .
فقال : سويبط : هو كاذب ، أنا رجل حرّ .
قالوا : قد أخبرنا خَبرك .
فطرحوا الحبل في رقبته وذهبوا به ، فجاء أبو بكر فأُخبر ، فذهب هو وأصحابه إليهم فردوا القلائص وأخذوه ، ثم أخبروا النبي  ص بذلك ، فضحك هو وأصحابه منها حولاً .
2- أخرج الإمام مسلم في صحيحه (6/ 15 – 16 ) من حديث علي رضي الله عنه قال : بعث رسول الله  r  سرية عليهم علقمة بن مجزز ، وأنا فيهم ، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق ، استأذنه طائفة فأذن لهم ، وأمّر عليهم عبد الله بن حذافة ، وكان من أهل بدر ، وكانت فيه دعابة ، فبينا نحن في الطريق ، فأوقد القوم ناراً يصطلون بها ، ويصنعون عليها صنيعا لهم ، إذ قال : أليس لي عليكم السمع والطاعة ؟ قالوا : بلى . قال : فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا تواثبتم في هذه النار ، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واقعون فيها ، قال : أمسكوا ، إنما كنت أضحك معكم ، فلما قدموا على رسول الله ص  ذكروا ذلك له ، فقال : ( من أمركم بمعصية فلا تطيعوه ) وفي رواية أن رسول الله  ص  قال : ( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة ) .
3- وإن كانت مداعبة بعضهم لبعض في بعض الفترات تتعدى القول إلى الفعل ، فقد روى البخاري في الأدب المفرد ( ص 99 ) من حديث بكر بن عبد الله قال : كان أصحاب النبي  r  يتبادحون بالبطيخ ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال .
إن النفوس حين تكون في عظمتها كهذه النفوس فلا مانع أن يتعدى مزاحها القولي إلى الفعل الذي يحقق من ورائه فائدة ، فإن هذا التبادح بالبطيخ فيه فائدة التعود على الرمي الذي أمر به  ص  وفسر القرآن به في قول الله تبارك وتعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم }[الأنفال/60] ، فقد قال  ص في تفسير القوة في هذه الآية كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه ( 3 / 52 ) فقال : ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي .
4- وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه صحب دعابة كما أخبر بذلك أبو رافع .. وهو ما ذكره الذهبي في السير ( 2 / 614 ) أن مروان بن الحكم استخلف أبا هريرة على المدينة ، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يركب حماراً ببرذعة ، وفي رأسه خُلبَة من ليف – أي الحبل الرقيق الصلب من الليف والقطن - ، فيسير ، فيلقى الرجل فيقول : الطريق ! قد جاء الأمير .!!
وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب ، فلا يشعرون حتى يلقي بنفسه بينهم ، ويضرب برجليه ، فيفزع الصبيان فيفرون .
وربما دعاني إلى عشائه ، فيقول : دع العُراق – العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم - للأمير . فأنظر فإذا هو ثريد بزيت .
5 – وأيضاً ما حدّث به ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال : أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب ، وهو يومئذ خليفة لمروان ، فقال : أوسع للأمير . السير ( 2 / 614 ) .
6- وري عن أبي الدرداء أنه كان لا يتحدث إلا وهو يبتسم ، فقالت له أم الدرداء : إني أخاف أن يرى الناس أنك أحمق . فقال : ما رأيت رسول الله  ص حدث حديثاً إلا وهو يبتسم في حديثه . انظر الشباب والمزاح ( ص 26 ) .
7 – خرج عبد الله بن عمر وعبد الله بن عياش من المسجد ، فلما كانا على بابه كشف كل واحد منهما ثيابه حتى بدت ساقه ، وقال لصاحبه : ما عندك خير ، هل لك أن أسابقك . نفس المرجع .
وإذا كان بعض الصحابة قد اشتهر بالمزاح فإن التابعين قد اشتهر بعضهم بالمزاح على جلالة قدرهم ، وعلو منزلتهم .
1- فها هو سفيان الثوري رحمه الله كما ذكر ذلك الذهبي في السير ( 7 /275 ) عن قبيصة قال : كان سفيان مزاحاً ، كنت أتأخر خلفه مخافة أن يحيرني بمزاحه .
وروى الفسوي عن عيسى بن محمد : أن سفيان كان يضحك حتى يستلقي ويمد رجليه .
2 – وكان الإمام الصوري رحمه الله فيه حسن خلق ومزاح وضحك ، ولم يكن وراء ذلك إلا الخير والدين ، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه ، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة ، فقرأ يوماً حزءاً على أبي العباس الرازي وعنّ له – أي تذكر – أمراً ضحّكه ، وكان بالحضرة جماعة من أهل بلده ، فأنكروا عليه ، وقالوا : هذا لا يصلح ولا يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي  ص  وأنت تضحك . وكثّروا عليه ، وقالوا : شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا ، فقال : ما في بلدكم شيخ إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي ، ودليل ذلك أني قد صرت معكم على غير موعد ، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله  ص  ، اقرؤوا إسناده لأقرأ متنه ، أو اقرؤوا متنه حتى أخبركم بإسناده . السير ( 17 / 629 ) .
3 - وهذا التابعي الجليل سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله ، والذي يقول عنه الذهبي كما في السير (6/ 227 – 228 ) ما خلاصته : هو الإمام شيخ الإسلام ، شيخ المقرئين والمحدثين ، علامة الإسلام ، من كبار العباد ، لم تفته تكبيرة الإحرام قريباً من سبعين سنة ..
كان هذا التابعي الجليل صاحب دعابة لطيفة ، ونكتة خفيفة ، وفي بعضها من الدروس التربوية ما لايخفى ، فمن ذلك :-
أ - أنه قال مرة من المرات وهو يَسْعُل ، بلغني أن الرجل إذا نام حتى يصبح – يعني لم يصل – توركه الشيطان فبال في أذنه ، وأنا أرى أنه قد سلح في حلقي الليلة . السير (6 / 231) .
ب – وأنه ذكر مرة حديث ( ذاك بال الشيطان في أذنه ) فقال : ما أرى عيني عمشت إلا من كثرة ما يبول الشيطان في أذني . السير ( 6 / 232 ) .
ت - خرج الأعمش فإذا بجندي ، فسخره ليخوض به نهراً ، فلما ركب الأعمش – يعني على ظهر الجندي – قال الأعمش : { سبحان الذي سخر لنا هذا } ، فلما توسط به الأعمش قال : { وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين }[ المؤمنون /29 ] ثم رمى به . السير ( 6 / 238 ) .
ث - سأل أبو داود الحائك ، الأعمش : ما تقول يا أبا محمد في الصلاة خلف الحائك ؟ فقال : لا بأس بها على غير وضوء ، قال : وما تقول في شهادته ؟ قال : تقبل مع عدلين . السير ( 6 / 234 ) .
ج – وكان للأعمش ولد مغفل ، فقال له : اذهب فاشتر لنا حبلاً للغسيل ، فقال : يا أبه : طول كم ؟ قال عشرة أذرع ، قال : في عرض كم ؟ قال : في عرض مصيبتي فيك . السير ( 6 / 239 ) إلى غيرها من المواقف التي تجدها في ترجمته في السير ( 6 / 226 – 248 ) .
4 – قال الربيع : دخلت على الشافعي وهو مريض ، فقلت : قوى الله ضعفك ، فقال : لو قوى ضعفي قتلني ، قلت : والله ما أردت إلا الخير ، قال : أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير .
5 – دخل الشعبي الحمام فرأى داود الأودي بلامئز ، فغمض عينيه ، فقال له داود : متى عميت يا أبا عمرو ، قال : منذ هتك الله سترك .
6 – ومزح الشعبي في بيته فقيل له : يا أبا عمرو ، وتمزح ؟ قال : قرّاء داخل وقرّاء خارج ، نموت من الغم.
7 – قال أحد الصالحين عن محمد بن سيرين رحمه الله : كان يداعبنا ويضحك حتى يسيل لعابه ، فإذا أردته على شيء من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك .
8 – جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال له : إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل ، فإلى القبلة أتوجه أم إلى غيرها ؟ فقال له : الأفضل أن يكون وجهك إلى جهة ثيابك لئلا تسرق .
9 – قيل لأحد السلف : هل نصافح النصارى ؟ فنظر إلى السائل وقال : نعم برجلك ! .
10 – قيل للخليل بن أحمد : إنك تمازح الناس ، فقال : الناس في سجن ما لم يتمازحوا . انظر : الشباب والمزاح ( ص 25 – 28).
لقد كانوا رحمهم الله إلى جانب ما هم عليه من العلم والعبادة والزهد والورع ، على قدر كبير من التودد إلى الناس ، وإدخال السرور عليهم ، متأولين قول الرسول ص: إن من أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا .. الحديث . صحيح الجامع ( 1 / 247 ) .