تميز التربية الإسلامية بصياغة الفرد عقائدياً وفكرياً وسلوكياً



ونقصد بالتميز صياغة الفرد عقائدياً وفكرياً وسلوكياً بحيث يتشكل في صورة مستقلة هي الصورة الإسلامية بكل أبعادها وفق الكتاب والسنة المطهرة بالتصور الشامل للحياة في نواحيها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

والتربية الإسلامية المطلوبة اليوم إنما هي التي تمثل ذلك الرصيد التاريخي الحي للإسلام ونماذجه الفعالة في ذاك التاريخ.

فالرصيد العقائدي والتاريخي، هو مفهوم التربية حتى عند مفكري هذا العصر من رواد التربية عند الغرب الذين أسسوا المناهج التربوية يحتل الصدارة بين خبراء التعليم في بريطانيا في مقال له كتبه لدائرة المعارف البريطانية "لقد سلك الناس مسالك مختلفة في التعريف بالتربية، ولكن الفكرة الأساسية التي تسيطر عليها جميعاً: أن التربية هي الجهد التي يقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها".

ويقول البروفسور كلارك prof.clark "مهما قيل في تفسير التربية فمما لا محيص عنه أنها تسعى للاحتفاظ بنظرية سبق الإيمان بها وعليها تقوم حياة الأمة، وجهادها في سبيل تخليدها ونقلها إلى الأجيال القادمة".

والتميز في حد ذاته مطلب تحرص عليه الأمم التي تريد العيش مستقلة بشخصيتها ومنهج حياتها، لا تتبع ولا توالي أية جهة أخرى،ولو كانت أكثر قوة وعدداً منها.

وإذا أردنا أن ندلل على هذا التميز وأثره في الأمة من واقع حياتنا المعاصرة، لنظرنا إلى اليابان مثلاً، هذا البلد الذي خرَّ من الحرب العالمية منهك القوى متضرراً من ويلات الحرب كما لم تتضرر دولة مثله، ومع ذلك هو الآن في مصاف الدول المتقدمة، بل يحسب له الشرق الشيوعي، والغرب الرأسمالي ألف حساب وحساب في جميع المجالات الحضارية.

إن تبعيتنا للشرق أو الغرب لا تهم المعسكرين لمجرد كونها تبعية،فلا يهم الغرب الرأسمالي أن يكون المشرق العربي شيوعياً كما لا يهم الشرق الشيوعي أن يكون المشرق العربي رأسمالياً، المهم أن يظل هذا العالم العربي بلا هوية حقيقية تميزه، وأن يظل نكرة في خارطة العالم، وهذا القدر يرضي الطرفين الكبيرين لأن محصلة هذا الوضع ستصب في جيب واحد.

والإسلام وحده الذي يملك مفتاح هذه الهوية، ويوم أن كان هو هويتنا كنا سادة الأرض بحق وصدق، وعدل، وبغيره سنظل نلهث وراء المظاهر الحضارية نحسبها التقدم والعلم وهو القشور والخداع.

ويوم يحسُّ المعسكر الرأسمالي أو الشيوعي بأننا بدأنا نعرف طريقنا ونضع أيدينا على قرآننا وسنة نبينا، ونحقق ذلك في واقعنا سلوكاً ونظاماً ومنهج حياة، حينذاك فقط سيجتمع المعسكران لحربنا،ولن يستطيعا أن ينالا شيئاً كما لم تستطع قبلهما أكبر دولتين (الروم والفرس) أن تنالا من المسلمين الأوائل شيئاً، بل وسيأتي اليوم الذي يقفان فيه على خط الدفاع عن شخصيتهما وتميزهما خشية أن يذوباً في البوتقة الإسلامية الجديدة، كما ذاب من قبلهم الفرس والروم.

إن مشكلة ذوبان شخصية هذه الأمة الإسلامية وفقدان هويتها انعكس بالحتم على هذا الشباب الذي اجتمعت عليه مشاكل الشرق والغرب لتصوغ منه شباباً لا يعرف اتجاهه، أو بمعنى أصح لتصوغ منه مشكلة في حد ذاته على مجتمعه أن يتحمله وأن يوجد العلاج له.

إننا إذا لم نحل هذه المشكلة بإرجاع الشباب إلى دينهم وإعطائهم هويتهم الحقيقية المفقودة فإننا سنظل كأمة للشرق تارة وللغرب تارة أخرى نتلون بألوانهم ونجاريهم في كل تقليعة وموضة ونأتمر بأمرهم وننتهي عند نهيهم فنعيش حياة الإمعات والأتباع.

والنبي (ص) يبين لنا أن هاذ الذوبان سيكون وأن هذه التبعية ستتحقق وراء اليهود والنصارى وبما يدبرانه لهذه الأمة من مكائد.فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (ص): « لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِى جُحْرِ ضَبٍّ لاَتَّبَعْتُمُوهُمْ ». قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ آلْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ «فَمَنْ».[1]

وذكر النبي (ص) هذا من باب التحذير منه،وأنه سيقع فلا ينبغي التسليم له وإنما يكون الخروج منه بالعودة على ما لا نضل بعدهما كتاب الله وسنة نبيه (ص).

والذي ينبغي أن تعيه مناهجنا هو أن التبعية فيما هو صالح ومفيد في الحقول العلمية الجادة مطلب شرعي مطالبة به الأمة المسلمة كي تكون في مصاف الدول المتقدمة وتبز أعداء الله عز وجل بما تقدمه من تقنية وابتكار وتطوير لأنواع الصناعات المختلفة ليكون كل ذلك مسخراً لخدمة المسلم وغيره.

فالفنون العلمية التقنية التي تنبني عليها هذه الحضارة بضاعة عالمية يمكن استيرادها من أي مكان شرقياً كان أم غربياً، فليس المحذور في هذا الجانب إنما المحذور الذي نخشاه على أنفسنا وشبابنا وما نحن بصدده من مشاكل هو استيراد المناهج التربوية والأخلاقية لأصحاب هذه العلوم، فليس حتماً أن يرتبط الاثنان معاً، بل إننا لم نستورد إلا هذا الجانب النظري من المناهج التربوية والنظريات الفلسفية وكل ما لا وراءه إلاّ المسخ لهذه الأمة المسلمة، وتركنا الجوانب العلمية الحضارية التي هي سبب قوة الأعداء وتمكنهم من رقابنا.

فقضية فقدان الشخصية وذوبانها من أخطر القضايا المعاصرة، لقد دالت دول عريقة بسببها، وانصهرت شعوب وانمسخت في بوتقتها، وانهارت قوى شامخة جبارة في ظلها.

وجيلنا المعاصر يعيش اليوم ذروة الخطر في هذه القضية، لقد أدرك الغرب بعد تجارب ومواقف تاريخية مضنية، أن قوة هذه الأمة المسلمة في شخصيتها وقوة شخصيتها تتركز في منهج دينها الذي جعل منها أمة متميزة تحمل كل مكونات الاستمرار والعطاء.

ومن هذا الباب والمنطلق بدأ الهدم والبناء، هدم معالم الشخصية المسلمة، وبناء معالم الشخصية الأوروبية.

وبدأ الهدم بغزو ثقافي مركز طرحت خلاله شعارات ودعاوى وأفكار ومبادئ، ولو رجعنا إلى حصر المطروح في ساحتنا منذ ستين عاماً إلى اليوم لعجبنا أشد العجب من كثرة الزخم المطروح، حتى لا تكاد تتصور فكرة أو مبدأ إلا وله في ساحتنا نصيب كل ذلك ليكدر صفو المنهج التربوي الإسلامي أو ينحيه ويستبدله بغيره ولكن ذلك كان.

وأوهمونا ابتداء أن رقي المجتمع الأوروبي إنما هو بسبب منهجه الحياتي ونمط تفكيره واعتقاده، وبالتالي فإن هبوط ودنو المجتمع الإسلامي إنما هو بسبب منهجه الحياتي ونمط تفكيره واعتقاده.

إنهم يدركون جيداً أن ربطهم لنا بمنهج تفكيرهم وتصورهم ونمط حياتهم سيجعل تبعيتنا الفكرية والوجدانية لهم،وبالتالي سيكون تناولنا للعلوم والحضارة تناول الفكر الغربي الأوروبي، تناول التابع لمتبوعة،تناولاً نحس فيه الروح الأوروبية لا الروح الإسلامية،ولعل هذا يتضح في كثير من رجالات العلم العرب والمسلمين الذين لا يفخرون إلاّ بالغرب، بل، ويخجل الواحد منهم أن ينتسب إلى دينه!

إنهم يدركون أيضاً أن تمكينهم لنا من تكوين علاقة وصلة مباشرة بالعلوم العلمية التقنية دون المساس بتصورنا وعقيدتنا وفكرنا يجعلنا نتناول هذه العلوم الحضارية بعزة إسلامية لا بعزة أوروبية، وفي ذلك من الخطورة ما فيه، إنها نقطة التحول ونقطة نزع الريادة والقيادة من يد الغرب والشرق، إن معنى ذلك انتهاء الحضارة الأوروبية وبدء الحضارة الإسلامية من جديد.

إن هذه النقطة الحساسة تذكرهم بأول يوم لنهضتهم،فقد قامت حضارتهم على أنقاض حضارتنا بعد أن نمنا نومنا العميق الذي لم نصح منه حتى الآن، بينما صحا الغرب من سباته ليجد مبادئ وأركان الحضارة العلمية جاهزة يطورها ويبني عليها ويرممها، وهذا هو الذي حدث بعينه.

إننا حينما نتناول هذه الحضارة بعزة إسلامية فإنما نتناول بضاعتنا التي ينبغي أن ترد إلينا لأننا أهلها.. لا بأشخاصنا ولا بجنسياتنا وإنما بما نحمله من عقيدة وتصور إيماني فريد، وبما في قلوبنا وأيدينا من مؤهل يحمل القدرة على ترشيد الحضارة وتوجيه دفتها من الجفاف إلى الخضرة ومن البطون والشهوات إلى الأفئدة والعقول.. ومن الطين والأرض إلى السماء.

وسيبقى هذا الكلام حديث نفس نسلي به أنفسنا،ونجترُّ لها من سابق عهدنا، ونوهمها بأننا نسابق الدنيا بل ونتصور قيادتها لما في أرضنا من ثروات وما في بلادنا من إعمار وفي شعوبنا من رفاه، بينما لو كشفنا عن الحق والواقع لثامه لعلمنا أننا في مؤخرة ركب الدنيا وفي آخر قاطرة من قاطراته، وإنه بيننا وبين القيادة مسافة كبيرة لا نجد زاداً يوصلنا إليها بعد قطع المشاق والصعاب إلاّ زاداً واحداً هو زاد الإيمان... زاد الكتاب والسنة.. الزاد الذي جعلنا في قيادة قاطرة الحضارة... الزاد الذي جعلنا نجنب الحضارة الرومانية والفارسية دفة القيادة.

لقد كنا بهويتنا وشخصيتنا الإسلامية علماً ومعرفة على رأس الدنيا،فأصبحنا بفقدهما نكرة مجهولة في هذا العالم، وما زالت الفرصة أمامنا.. لنعرف أنفسنا... وتعرفنا الدنيا كلها.

التميز والمفاصلة:
ولكن هل معنى تحقيق هذا التميز في التربية والواقع واستعادة الهوية الإسلامية المشرقة يعني أننا سننفصل عن هذا المجتمع وأفراده وأسره ونبحث عن بديل لكل ذلك..؟!

سؤال يطرح نفسه من خلال ما ذكرناه في التميز والهوية الإسلامية فينبغي أن توضح هذه النقطة: فإن الدعوة إلى هذا التميز بالشكل المطروح ليس معناه ولا نتيجته العزلة والانفصال عن المجتمعات بالشكل المتصور خصوصاً وفي هذه المرحلة الابتدائية لإعادة الهوية الإسلامية إلى هذا المجتمع ممثلاً في فئاته رجالاً ونساء وأسراً، فإن العزلة التامة في جميع الشؤون وإن كانت مطلوبة إلا أنها ليست مرادة الآن وإنما العزلة التي نريدها نتيجة لهذا التميز هي العزلة الشعورية التربوية في داخل النفس المؤمنة، أن يحسَّ المسلمُ وهو يحمل هذه الشخصية المسلمة أن ما يحمله من تصور يصطدم والواقع العملي والمنهج التربوي الذي يعيشه فيحس بنفرة وكراهية لهذا الواقع.

وهكذا يحقق العزلة الشعورية في كل ما يصطدم وتصوره، ولكنه لا يستطيع في هذه المرحلة أن يغير من واقعه إلا بالقدر الذي يناسب قدرته كفرد، فإذا تكرر مثل هذا الشخص فإن قدرته سوف تتكرر وبالتالي ستكون أكثر فعالية من ذي قبل.

وهكذا حتى يتمكن المجتمع من أن يطهر نفسه بنفسه ويرقى إلى صف المجتمع الذي ينشده إيمانه ويفرضه تميزه الذي ينتج عزلة شعورية تتحول مع الأيام إلى عزلة اجتماعية تامة... ومعنى العزلة التامة أنها تصبح دولة بها سلطة إسلامية تزاول أحكام الشريعة الإسلامية على شعب مسلم ملتزم بهذا الإسلام.

وليس معنى العزلة التامة هذه أنها ستستغني عن المجتمعات الأخرى لا، بل العكس هو الصحيح إنها ستصبح أكثر تفاعلاً مع المجتمعات الأخرى ولكن هاذ التفاعل يفرضه ويكيفه التصور الإيماني لهذه الدولة، فهي دولة دعوة وإيجابية تؤثر في الدولة أو في غيرها من الدول من هذا الجانب وتعاهد وتخاصم على ضوء هذا التصور، وهذا الجانب في العلاقات نظَّمه الإسلام على مستوى الدولة تنظيماً تفصيلياً فيما يسمى بالعلاقات الدولية في الإسلام.

والنبي (ص) حين بدأ الدعوة في مكة ظل ثلاثة عشر عاماً يبني التصور الإيماني لعقيدة المسلم وينشئ شخصية مسلمة متميزة عن الشخصية الجاهلية وأفكارها وتصوراتها.

ومع ذلك لم يفارق المجتمع ولم يقطع صلته بهم وكان يخاطبهم،بل ويستعين بهم،كما استعان بعبد الله بن أريقط في أدق مهمة وأخطرها حين الهجرة من مكة إلى المدينة فكان عبدالله دليله في هذا الشأن الخطير، وهو ما زال على شركه ولكن كانت حياة النبي (ص) ومعايشته مع المجتمع المشرك معايشة تفاعل وتأثير إيجابي كانت نتيجة ذلك الرعيل الأول الذي أقام بعد ذلك دولة الإسلام في المدينة.

فكان يعايش المجتمع الجاهلي إذاً ويحسُّ بالعزلة الشعورية في جوانبه ويحسها كلُّ من يدخل الإسلام، فكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا دخل أحدهم الإسلام ترك كل ما هو جاهلي أمام عتبة داره ودخل شخصاً جديداً كأنه ولد من يومه.

حتى إذا تسنى لهم أن يعتزلوا عزلة تامة في مشاعرهم ومعاملاتهم وشؤونهم كلها أذن الله لهم بالهجرة وهناك أقاموا الدولة الإسلامية.

وبدأت علاقاتهم مع الدول المجاورة تأخذ طابعاً جديداً طابع التفاعل والتأثير الدعوي لتحقيق شرع الله في الأرض على كل من تصل إليه هذه الدعوة وإلى كل أرض يمكن الوصول إليها.

وكان المنهج التربوي على مدار سير الدعوة الإسلامية المادة التي يحقق بها المسلم تميزه وعزلته.
[1] - صحيح مسلم- المكنز - (6952).