الأمانة والاحتراز من الخيانة.. الأمانة دعامة بقاء الإنسان وروح العدالة



الأمانة والاحتراز من الخيانة:

الأمانة: الوفاء[1]
"كشف الحق أن الأمانة دعامة بقاء الإنسان ومستقر أساس الحكومات وروح العدالة وحدها وهي أحد عناصر تكامل الشخصية"[2]
قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (58) سورة النساء.
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا. وَأَدَاءِ الأَمَانَاتِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الأَمَانَاتِ الوَاجِبَةِ عَلى الإِنْسَانِ:مِنْ حُقُوقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ( مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ...) وَمِنْ حُقُوقِ العِبَادِ (كَالوَدَائِعِ وَغَيرَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتَمَنُ الإِنْسَانُ عَلَيهِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بِيَدِ أَصْحَابِهَا وَثَائِقَ وَبَيَنَاتٍ عَلَيهَا ).
هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،فَقَدْ كَانَتْ لَهُ حِجَابَةُ الكَعْبَةِ. وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ (ص) طَافَ الرَّسُولُ (ص) بِالكَعْبَةِ، ثُمَّ دَعَا بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَخَذَ مِنْهُ مُفْتَاحَ الكَعْبَةِ وَدَخَلَها .فَجَاءَهُ العَبَّاسُ (وَقِيلَ بَلْ جَاءَهُ عَلِي) فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ، اجْمَعْ لَنَا حَجَابَةَ الكَعْبَةِ مَعَ السِّقَايَةِ. فَدَعَا رَسُولَ اللهِ بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَدَفَعَ إِلَيهِ المُفْتَاحَ، وَخَرَجَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ.
وَيَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالعَدْلِ، وَأَنْ يَكُونَ العَدْلُ عَاماً لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ، وَلِكُلِّ أحَدٍ، وَأنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ مِنْ إِقَامَةِ العَدْلِ حِقْدٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ أوْ عَدَاوةٌ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى إنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ، وَيَعِظُ بِهِ المُؤْمِنِينَ، هُوَ الشَّرْعُ الكَامِلُ، وَفِيهِ خَيْرُهُمْ، وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ، بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ، فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّ.[3].

ومن مجالات الأمانة:

1) والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى:

الأمانة التي ناط اللّه بها فطرة الإنسان والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها «الإنسان».. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان باللّه عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة.فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به، والاهتداء إليه، ومعرفته، وعبادته، وطاعته. وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته، وإلى عقله، وإلى معرفته، وإلى إرادته، وإلى اتجاهه، وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى اللّه، بعون من اللّه: «وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا».. وهذه أمانة حملها وعليه أن يؤديها أول ما يؤدي من الأمانات.
ومن هذه الأمانة الكبرى، تنبثق سائر الأمانات، التي يأمر اللّه أن تؤدى:
ومن هذه الأمانات:

أمانة الشهادة لهذا الدين:

الشهادة له في النفس أولا بمجاهدة النفس حتى تكون ترجمة له. ترجمة حية في شعورها وسلوكها. حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس. فيقولون:
ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال! فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون.. والشهادة له بدعوة الناس إليه،وبيان فضله ومزيته - بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية - فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه،إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان.وهي إحدى الأمانات..

ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجا للجماعة المؤمنة ومنهجا للبشرية جميعا ..المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة،وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة.فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان الذاتي.ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة ..ومن ثم ف «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» على هذا الأساس ..أداء لإحدى الأمانات..
ومن هذه الأمانات - الداخلة في ثنايا ما سبق - أمانة التعامل مع الناس ورد أماناتهم إليهم:أمانة المعاملات والودائع المادية.وأمانة النصيحة للراعي وللرعية.وأمانة القيام على الأطفال الناشئة. وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها... وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال ..فهذه من الأمانات التي يأمر اللّه أن تؤدى ويجملها النص هذا الإجمال ..

الحكم بالعدل:

فأما الحكم بالعدل بين «الناس» فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا «بين الناس» جميعا.لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب. ولا عدلا مع أهل الكتاب، دون سائر الناس.. وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه «إنسانا». فهذه الصفة - صفة الناس - هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني.وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا: مؤمنين وكفارا. أصدقاء وأعداء.سودا وبيضا. عربا وعجما. والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل - متى حكمت في أمرهم - هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط - في هذه الصورة - إلا على يد الإسلام،وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية.. والذي افتقدته من قبل ومن بعد هذه القيادة فلم تذق له طعما قط، في مثل هذه الصورة الكريمة التي تتاح للناس جميعا.
لأنهم «ناس»! لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه «الناس»! وذلك هو أساس الحكم في الإسلام كما أن الأمانة - بكل مدلولاتها - هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي.
والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها والحكم بين الناس بالعدل هو التذكير بأنه من وعظ اللّه - سبحانه - وتوجيهه.ونعم ما يعظ اللّه به ويوجه:«إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ» ..
ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه.فالأصل في تركيب الجملة:إنه نعم ما يعظكم اللّه به.. ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة، فيجعله «اسم إن» ويجعل نعم ما «نعما» ومتعلقاتها،في مكان «خبر إن» بعد حذف الخبر ..ذلك ليوحي بشدة الصلة بين اللّه - سبحانه - وهذا الذي يعظهم به ..
ثم إنها لم تكن «عظة» إنما كانت «أمرا» ..ولكن التعبير يسميه عظة.لأن العظة أبلغ إلى القلب،وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع والرغبة والحياء! ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية يعلق الأمر باللّه ومراقبته وخشيته ورجائه: «إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً» ..
والتناسق بين المأمور به من التكاليف وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وبين كون اللّه سبحانه «سميعا بصيرا» مناسبة واضحة ولطيفة معا.. فاللّه يسمع ويبصر، قضايا العدل وقضايا الأمانة.والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير وإلى حسن التقدير، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر،وإلى التعمق فيما وراء الملابسات والظواهر. وأخيرا فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور.[4]

2) أمانة إحسان معاملة أفراد الأمة:

كأن تكون أميناً على الودائع المستودعة لديك من الأموال أو حفظ أسرار المجتمع فلا تهتك ستره ولا تفشي سره" [5] وبالتالي في غرس هذا الخلق في أولادنا لا يخرج جيل به عملاء خائنين لوطنهم ولدينهم.

3) أمانة المنصب:

فإسناد المناصب العامة يجب أن يكون إلى الأقوياء، والأكفاء المخلصين. وجميع الحقوق المشروعة للحكومة أمانة في عنق الحاكم وهو مسؤول عن حمايتها وتمكينهم منها،عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ (ص)، قَالَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ: فَالأَمِيرُ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ.[6]

وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالرَّجُلُ رَاعِي أَهْلَ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.[7]

وعن الْحَسَنَ،قَالَ:عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ مَعْقِلٌ: إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ (ص)، لَوْ عَلِمْتَ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (ص) يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.[8]
"من ذلك يظهر حرص الإسلام على هذا الخلق لأن فقدانه يهدم أواصر المجتمع ويذهب بقيمه هباءً، ويصبح أفراده كائنات غادرة لا تقوم بمسؤولية، ولا ترعى عهداً ولا ذمة.
فمن الواجب ترسيخ هذا الخلق الأصيل منذ الطفولة كي ينمو في داخل الفرد ويترعرع، ليصبح أميناً بناءً في حياته،يحمل الخير لنفسه وأهله والناس أجمعين"[9]
[1]- إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، ص 48
[2]- سهام مهدي جبار، الطفل في الشريعة الإسلامية ومنهج التربية النبوية، ص 355
[3]- أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 551)
[4]- فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 688)
[5]- حلبي، عبد المجيد طعمه، التربية الإسلامية للأولاد منهجاً وهدفاً وأسلوباً، ص133
[6]- صحيح البخارى- المكنز - (893) وصحيح مسلم- المكنز - (4828)  وصحيح ابن حبان - (10 / 341) (4489)
[7]- صحيح ابن حبان - (10 / 343) (4491) صحيح
[8]- صحيح مسلم- المكنز - (380) وصحيح ابن حبان - (10 / 346)(4495)
[9]- المصدر السابق، (حلبي) ص 134