علم الآثار وشغف أغاثا كريستي به.. من كتابة الروايات البوليسية إلى دراسة التاريخ



لعلاقة أجاثا كريستي بالآثار دلالة رحيبة وأخاذة ذات أوجه متعددة غير متوقعة. لعل أولي هذه الأوجه وأكثرها أهمية تتمثل بالنظرة المغايرة علي أشهر روائيي العالم في الجريمة التي غالبا ما كانت تعادل في جاذبيتها جوارب الآنسة ماريل المنمنمة والمحبوكة بإتقان، تلك الفتاة التي تكتشف الجرم الإنساني بشكل لا يباري، مهما أُمعن في إخفائه، وتمتلك القدرة علي فك أسرار جرائم القتل التي يذهب ضحيتها أفراد ذوي خلفية قروية من الريف البريطاني ومدن السوق.
حتي وقت قريب لا يعرف غير القليل من الناس أن أجاثا كريستي أمضت سنوات عدة في الشرق الأدني، سوية مع زوجها الثاني، ماكس مالوان. لم تحتل جانبا عاديا في تواجدها معه خلال تنقيباته الكبيرة في سوريا والعراق بل ساعدته في طرق شتي أثناء التنقيبات ذاتها. الخدمات التي قدمتها أجاثا كريستي إلي علم الآثار غير معروفة علي نطاق واسع، كما أنها في الوقت ذاته لم ولن تدعي نفسها عالمة آثار، فهذا الحيز من حياتها قد أهمل إلي حد كبير. إن مشاهد الروايات من قبيل جريمة في قطار الشرق لسريع، وجريمة في بلاد مابين النهرين، و موعد مع الموت لم تبني علي الخيال فحسب، ولكن علي التجارب الشخصية للمؤلفة.
إن فكرة إقامة معرض عن أجاثا كريستي والآثار، وردت في خاطري منذ زمن بعيد إثر قراءتي لسيرتها الذاتية، " تعال.. أخبرني كيف تعيش"، حيث عرضت بأسلوب شيق ومحبب جوانب من حياتها مع ماكس في عالم الحفريات في سوريا بين الأعوام 1934-1938. تقدم هذه الوثيقة المثيرة رؤية فريدة للحياة اليومية التي عاشتها أيام الحفر من وجهة نظر شخصية، فهي بحد ذاتها لم تكن عالمة آثار، لكنها حرصت علي متابعة مجري التنقيبات من وجهة نظر مطلع علي هذا المضمار. لقد نظم معرض "أجاثا كريستي والآثار" علي هيئة رحلة. فهو ينطلق مع سفرتها الأولي علي متن قطار الشرق السريع المغادر صوب بغداد عام 1928، ويقف عند آخر مشاركة لها في التنقيبات التي جرت في النمرود، عند أطراف الموصل، عام 1958.
قررت أجاثا كريستي الشروع في رحلة عبر الشرق عام 1928. كانت قد ألهمت بحكايات أخبرها بها رفاق لها أمضوا سنوات عديدة من حياتهم في الشرق، ولطالما حدثوها عن بغداد بحماس. سافرت وحدها، وهو أمر كان يعد خرقا للعادة وشجاعا في ذلك الوقت. بدأت الرحلة في لندن حيث استقلت قطار الشرق السريع الذي أخذها إلي اسطنبول. قدم القطار الأسطوري مستوي عاليا من الراحة طوال الرحلة. كان المسافرون في محطات الطريق يؤخذون من قبل وكالات توماس كوك ويذهب بهم إلي الفنادق الفخمة. استمرت الرحلة من اسطنبول بقطار توروز السريع عبر حلب وصولا إلي دمشق. المرحلة النهائية من الرحلة إلي بغداد تمت بحافلات نارين. كانت الرحلة بالنسبة لأجاثا لانهائية، عبر صحراء رملية قاحلة ومملة. بدت الصحراء لها ساحرة ومضجرة معا في آن واحد. لقد حرك ركوب هذه الحافلة أجاثا كريستي لكي تكتب قصة قصيرة، بوابة بغداد، التي ظهرت عام 1934 ضمن مجموعة قصص قصيرة تحت عنوان( تحقيقات باركرباين). في هذه القصة يحل باركر باين لغز جريمة قتل وقعت علي متن الحافلة عبر الصحراء لشخص كان يشغل المقعد 12، وهي في طريقها من دمشق إلي حلب.
في رحلتها الأولي زارت أجاثا كريستي المدينة القديمة في أور الكلدانيين، مكان ولادة إبراهيم، بعدها أصبحت هي نفسها أسيرة المشهد الذي تتناثر علي جوانبه الخرائب.
( تنامي إغواء الماضي ليختطفني. لأري خنجرا يظهر ببطء، بومضته الذهبية، بدا خياليا في الرمال. الحذر في رفع القدور والأشياء من التربة ملأني برغبة عارمة في أن أكون آثارية). "أجاثا كريستي. 1977". 
مسحورة بالشرق، التنقيبات والحياة قرب الحفر. في عام 1930 تعرفت علي ماكس مالوان، عالم الآثار الذي كان أصغر منها بـ (14) عاما. وبعد تردد بسبب الفرق بين عمريهما وافقت علي الزواج منه في أيلول عام 1930.
طورت أجاثا كريستي انطباعاتها عن أور في رواية " جريمة في بلاد مابين النهرين" التي ظهرت عام 1936. كان من الواضح أن شخصيات القصة بنيت علي بعض المشاركين في بعثة التنقيب في أور، علي وجه الخصوص زوجة مدير البعثة الغريبة الأطوار، كاثرين وولي، التي صورت بشكل رائع مجسدة في شخصية لويس ليدنر الجميلة التي تسمح بقتلها في الرواية. الغلاف الجميل لهذا الكتاب بالإضافة إلي ( موت علي النيل) و( موعد مع الموت) صممهما معماري البعثة الأثارية في سوريا روبن ماكارتني. 
كان من الطبيعي أن يطلب ماكس من أجاثا أن ترافقه في تنقيباته المستقبلية. في شتاء 1931/1932 رفعت إلي منصب جديد كمساعدة له في نينوي في شمال العراق. الوثيقة محفوظة في المتحف البريطاني. تنص الوثيقة علي أن بإمكان أجاثا المشاركة في التنقيبات لمدة شهر، علي أن تتكفل بكافة تكاليف رحلتها، الإعالة والسكن، فضلا عن عدم جواز نشرها أي وصف للأشياء التي تجدها دون الإشارة إلي الدكتور تومبسون. 
خلال عودتها من التنقيبات في نينوي قريبا من عيد الميلاد عام 1931، تعطل قطار الشرق السريع بالقرب من الحدود اليونانية التركية. وضعتها محنة اليومين في القطار، وهي تعاني البرد ونقص في الطعام والماء الصالح للشرب، في احتكاك مباشر مع رفاقها من المسافرين. رسالة كتبتها إلي ماكس بعد أن وصلت لندن تحمل شهادة حية علي الأحداث والمزيج المتنوع من القوميات المختلفة والاختطاف الناجح الأخير لطفل لندبيرك خدمها كمادة مباشرة لروايتها عن الجريمة ( جريمة في قطار الشرق السريع). 
بدءا من عام 1933 اندفع ماكس مالوان بتولي استكشافاته الخاصة الأولي، حيث نقب في تل الأربجية في الموصل في شمال العراق. جري تمويل البعثة من قبل المتحف البريطاني، المدرسة البريطانية للآثار في العراق، ومن قبل راع غير مسمي- أجاثا كريستي نفسها. بعد أن أنهي عمله بنجاح في تل الأربجية، لفت ماكس انتباهه بين عامي 1934و1938 إلي شمال سوريا. كانت المنطقة غير مستكشفة تقريبا. ركز عمله في جكار بزار وتل براك. كان هدف مالوان استكشاف فترات ما قبل التاريخ لبلاد مابين النهرين. 
خلال الحفريات التي استغرقت مدة ثلاث إلي أربعة أشهر لم تكن أجاثا كريستي مرافقة من النمط التقليدي ، بل كانت تعمل بنشاط دائب طوال الفترة. وعلي الرغم من دفعها لنفقات سفرتها وتكاليف معيشتها إلا أنها عملت بتفان مع أعضاء الفريق وحيثما تطلب الأمر. أصبحت عنصرا مساعدا في الحفر لا يمكن الاستغناء عنه. وأصبحت إحدي مهامها الرئيسة مراقبة حاملي السلال الذين غالبا ما كانوا يعملون ببطء.
( كان لدي عمل آخر، أيضا، فقد كنت أرصد بعين مراقبة أولاد - السلال، ذلك أن بعض الكسالي منهم، يتأخرون ولا يعودون في الحال عندما يأخذون سلالهم إلي مقلب النفايات. يجلسون في الشمس للاسترخاء، وغالبا ما كانوا يقضون ربع ساعة علي هذه الشاكلة !
الأكثر استحقاقا للتوبيخ، هو من كان يتكوم مستريحا في مقلب النفايات ويغط مستمتعا في نوم عميق !
مع اقتراب نهاية الأسبوع، ومن خلال دوري كسيدة تراقب سير العمل، أبلغت عن الموجودات التي اكتشفتها أثناء الحفر). "أجاثا كريستي. 1946" 
من بين أفراد فريق الحفر الذين لازالوا علي قيد الحياة، حامد موصلي، بوسعه تذكر نشاطاتها ووصفها علي النحو التالي:
(عملنا في حمل السلال في تل براك، نأخذ التراب من موقع الحفر إلي حيث ترمي الأكوام. كانت أجاثا جميلة، امرأة قوية. أشرفت علي العمال، أتذكر العصا التي كانت تستعين بها أثناء المشي، كان بوسعها أن تفتح إحدي طرفيها وتجلس عليه ككرسي).
كجزء من عمل فرز وتصنيف الفخار واصلت ترميم الفخار، وهو عمل كانت قد بدأته في تل الأربجية. إن أكثر الجوانب أهمية في أعمال أجاثا كريستي أثناء الحفريات، هو التقاط وتظهير صور الحفريات. جاءت الإشارة الأولي لنشاطاتها في تظهير الصور في مقدمة ماكس في وصفه للحفريات في تل الأربجية عام 1933، حيث كتب، بأن أجاثا كانت مسؤولة عن تظهير وتكبير الصور. كتب بالطريقة ذاتها في مقدمة التقرير عن وادي الخابور عام 1934 والحفر في جاكار بازار عام 1935. 
لم تلجأ المؤلفة إلي استخدام بلاد مابين النهرين مكانا لأي من روايات الجريمة التي كتبتها. من الواضح أنها كانت تكن احتراما عميقا لتلك الحضارات التي كانت من اختصاص زوجها. ماكس، عالم جدي، لم يدر في خلده أو حتي أراد، حبكة جريمة قتل خيالية تصاغ في بلاد بين النهرين القديمة. لهذا السبب لم تستفد أبدا من عمق معرفتها، التي كانت تمكنها من كتابة رواية في الموضوع - قصة كان يمكن أن تبني علي الخطوط المسمارية وتُعدُ علي أرضيات إحدي القصور العملاقة التي لم يكشف النقاب عنها. 
في عام 1938 غادر مالوان سوريا، ولم يعد إلي الشرق الأوسط حتي عام1948عندما زارا النمرود حيث بدأ ماكس بالحفر في عام 1949. لدينا ثروة من صور الأسود والأبيض وشفافات ملونة من هذه الفترة في العراق التقطتها أجاثا كريستي وفلم آخر. تسجل الأفلام والصور الحياة في العراق وأعمال الحفر الأثرية. 
إن عنوان مذكراتها عن فترة مكوثها في سوريا، (تعال اخبرني كيف تعيش)، يقدم لنا أين يكمن اهتمامها الرئيس، لقد أرادت أن تعرض الحياة اليومية للآثاريين في الحفر. لكنها في الوقت ذاته تمنت تحطيم الأحكام المسبقة وتقنع الناس بأن يعدلوا فكرتهم. من خلال النظرة المتحفظة وليس النظرة المتعاطفة للرحالة، الذي ذهب إلي الشرق الأوسط للمرة الأولي عام 1928، وبناء علي ذلك عمل بحماس هناك لفترة طويلة، ما قدمته كان رؤية فريدة للناس والحياة والمناظر الطبيعية التي تعود إلي ثقافة باتت اليوم منطفئة. 
يصور الفلم الذي التقطته أجاثا في النمرود في عامي 1952و1957 بيت البعثة الأثرية، ويقدم مرة أخري لقطات ظريفة وغير اعتيادية، قيمة، تنفذ إلي تفاصيل الحياة اليومية للتنقيبات الأثرية. كما يصور اللقي التي وجدت في الموقع، العمال وهم يحفرون، وتنقيبات البئر حيث المكان الذي وجدت فيه العاجيات، وعرفت فيما بعد ب"عاجيات النمرود". صورت أيضا العمال وهم يرقصون وعددا من الحيوانات كالكلاب، والتركي، والبط وهو يسبح في الساقية. 
إن كلا من الصور والأفلام تقدمان لمحة عن ذلك العالم الصغير المتحفظ في الشرق الأوسط- تلك اللمحة التي تعد فريدة، فيما إذا ترك المرء جانبا صور ماقبل الحرب العالمية. لقد نجحت أجاثا في أن تجلب العالم وتضعه أمام أعيننا سواء عبر الكلمات أو الصور. 
وفي الوقت الذي لم تكن فيه أجاثا كريستي مصورة محترفة أو عالمة، آثارية، أو مبشرة، إلا أنها أفلحت في أن تترك لنا الكثير من المواد الموثقة بما يفوق ما قدمه أولئك الزوار الغربيين لتلك البلدان. عند التقاعد واصلت أجاثا كريستي دعمها لماكس في اهتماماته الآثارية وحافظا علي ارتباطاتهم مع زملاء من مختلف أنحاء العالم، بضمنهم كلود شيفير الذي إلتقته في سوريا في ثلاثينيات القرن العشرين. 
--------------------
بتصرف عن:New light on Nimrud  
تشارلوت ترومبلر
ترجمة: يحيي صديق يحيي