بكتمان شديد، إنطلقت عملية التهريب من المحطة قبل الأخيرة التي وصلناها قبل أيام، ولم أعرف ذلك إلاّ في هذه اللحظة التي توقفتُ فيها عند عجوز متسولة تفترش ظل كابينة الهاتف العمومي، فكرتُ مع نفسي، يجب أن تكشف لي عن مآل الصفقة التي تعثرت كثيرا، فلقد عرفتُ من صديق جديد ان هذه العجوز تكشف عن الطالع لمن يرغب بمعرفة ما يسكن في بطون الغيب.
قبل أن أغادر بلدي بأيام لجأتُ الي الإستخارة وهي المرة الأولي التي أحتمي فيها بوسائل غيبية، كنت أعيش عذابا حقيقيا علي مدار الساعة مبعثه التردد بين خوض هذه المغامرة او الصبر ريثما تحين فرصة مناسبة وأمينة، ولكن متي ستحين؟!، دخلتُ بيتي عند المساء قبل بدء الصفقة محتارا بين الشروع أو التأني، رأيت إبنتي الكبيرة تصلي، المصباح الفضي يسكب ضوءه فوق رأسها وهي تقف في محراب الصلاة بين يدي ربها، كان الوقت غروبا، إنها مخلصة لنفسها ولغيرها، جادة قوية مؤمنة قولا وقلبا عكس أبيها المؤمن بقوله لا بأفعاله حسبما يري الآخرون، ولكن ما الذي يدفعني نحو هذا السلوك، هل هو اليأس أم اختلاط الأوراق أم ماذا؟، كنت في السابق حتي لحظة اتخاذ القرار بالنزوح، أقول لنفسي ولغيري ان كل ما يتعلق بالتنجيم والرجم بالغيب ينتمي الي حقل الخرافات بسبب جهل الانسان وعجزه، فما الذي دفعني كي ألتجئ الي الغيب؟!.
بدت الغرفة التي تصلي فيها إبنتي كتلة ضوء فضية تفوح منها رائحة التقوي والورع، نظرت الي وجهها النوراني، إنها إبنتي التي يطمئن لها قلبي كثيرا، كانت غائبة في رحاب ربها، متوحدة به، فكرتُ أن تأخذ لي استخارة عن رحلتي قبل أن أبدأها ومدي نجاحي وإخفاقي بالعبور الي حدائق الضوء، أنا أثق بها فطلبتُ منها ذلك ورأيت فرحة خجلي تعلو وجهها المنير أصلا، وفعلتْ، تهدج صوتها المقرور واستغفرتْ وغاصت في اعماقها، وجاءت النتيجة (خير وأمان وسرور) وأعادت الكرة ثانية وثالثة، والنتيجة (خير وأمان وسرور)، طفح وجهها بالسرور وضج في وجهي الحبور، حينها ألغيتُ الأفكار السلبية تماما وعقدتُ العزم علي خوض غمار الرحلة بلا تردد.
لهذا كنت متفائلا منذ أن بدأت مغامرتي ولطالما قلت للجميع إن الحظ سيحالفنا، وسنعبر تباعا بلا منغصات قوية برغم العقبات الكثيرة التي واجهتنا، وعرفت اليوم ان العائلة التي رافقتنا هي وجبة التهريب الأولي. رأيت جمال الرسام أحد اللاجئين يستند الي سور الحديقة في الجانب الآخر من شارع النخيل، ظل في مكانه حين جلستُ الي العجوز التي طفقت ترطن بمفردات مدغمة متداخلة وقد أمسكت بيدي اليمني لحظات ثم اطلقتها في الهواء لتمسك بها ثانية بكفها الراعشة، فصلتُ نفسي عن العالم، وركزتُ وعيي بها حصرا، لم أعد أسمع سوي صوت المترجم الشاب صاحب المكتبة الذي دلَّني علي هذه العجوز، مفردات سريعة متذبذبة تعلو حينا وتخفت آخر، أجواء دروشة تعم المكان، العجوز ترتعش ويكاد جبينها يضرب الأرض حين تنحني فجأة، وجهها الذابل تعود إليه الحياة ويحمَّر شيئا فشيئا، وأنا مكبل بالذهول والصمت والمفاجآت، يأتي الصوت خفيضا ثم يعلو وينخفض، صوتاهما يتداخلان معا، العجوز المنهمكة بأسرارها ورؤياها والشاب المترجم الذي طفق يوضح ما تقوله العجوز بلغة عربية فصيحة متلكئة، أتذكر أنني لم أعر اهتماما مدي حياتي لمن يكشف الفأل رجلا كان أم إمرأة، والآن أجدني مصغيا بكل شواردي لرطانة العجوز التي لم افهم منها شيئا، نظرتْ إليَّ بعينيها الكليلتين النصف مغمضتين كأنها تأسف لحدوث أمر ما، وقرأتُ في وجهها المجعَّد كارثة ستحل بنا آجلا أم عاجلا، بدا وجهها محتقنا غاضبا، مسحة شر تشتعل فيه فتنم عن شيء محدد وكريه، ولكن كيف لهذا الوجه الميت أن يصير حيا علي هذا النحو المفاجئ، قبل دقائق كان وجها لا نبض فيه، حياديا، لا حزن فيه ولا فرح، لا خوف ولا سكينة، لا يأس ولا أمل، لوحة صمّاء، هكذا بدا لي وجهها المغضَّن الذي صار في لحظات بؤرة تغص بعلامات الشر، أسرني المشهد بخطورته وغرابته، لأول مرة أعيش لحظات مجحفة كهذه، لحظات ستكشف لك عما يهجع في أعماق الزمن القادم، وستفصح عن المكنون في السر الكوني او البشري، ولكن أي فرق بعيد بين إبنتي النورانية وبين هذه العجوز اليائسة، وأي سيمياء لا تلتقي في وجهيهما من بعيد أو قريب، وجه إبنتي الهادئ المنير ووجه العجوز القانط الحزين، أليس الإيمان الحقيقي يشعُّ في كل الوجوه بطريقة واحدة برغم اختلاف الأعمار، ودون وعيٍ مني غبتُ عن اللحظة الآنية وغطست في غيبوبة لم أجربها من قبل، صمت وهدوء وحذر من شيء ما مجهول، فقط كلمات متناثرة تصل سمعي بصوت المترجم، يتردد صداها كأنني في حلم (إنك تسير في طريق مغلقة، انك تدخل متاهة مهلكة قد لا تخرج منها حتي الموت، ألا تشم رائحة الغدر الحريفة) هكذا يتصادي صوت المترجم علوّأ وخفوتا وهكذا تقول رؤيا العجوز.
طفرتُ هاربا منها ولعنتها في داخلي ولعنت نفسي التي قادتني إليها، وبَّختُ نفسي بعنف، ولم أعطِ العجوز درهما واحدا لكنها لم تحفل بذلك وحين ابتعدتُ عنها سطع اليأس في وجهها ولأول مرة أقرأ فيه معني واضحا وضوح الشمس، عبرتُ الشارع الي الجهة الأخري منغَّص الروح مكدَّر المزاج، كان جمال الرسام ما يزال جالسا فوق سور الحديقة بوجه يميل كعادته الي الحزن، قلت له بألم:
- هل تعرف ماذا قالت هذه العجوز عن تهريبنا؟
لم يكترث جمال بكلامي، ظل صامتا، كأنه لم يسمعني أو انه يعرف ما سأقول فلم ينتظر مني حديثا مهما عن مصيرنا، وقبل أن أتم كلامي قاطعني قائلا:
- أرجوك اسمعني أنت أولا.
(قبل أيام زرت صديقا عراقيا يقيم هنا منذ سنين طويلة، رحنا نتجول بسيارته في شوارع المدينة، أنا أعرف أن كل كلمة تصدر منه صادقة وهو لا يكن لنا سوي الخير بل يتمني لنا النجاح دائما، لقد قال لي ان رحلتكم هذه محفوفة بالفشل وان المهرِّب لم يصدق معكم مثلما لم يصدق مع آخرين قبلكم وأظن انكم في مشكلة حقيقية لا يخرجكم منها إلاّ الله، صعقتني كلماته هذه ورحت أنظر له باستغراب شديد، عند ذاك إتصل صديقي بالموبايل بأحد المنجمين أو السحرة كما يسمونهم هنا، وطلب منه أن يكشف الحجاب عن المستتر والغائب حول مصير صفقتنا لكنه لم يفصح له عن قضية التهريب، وقد ربط صديقي حاكية الموبايل مع حاكيات السيارة فأخذ صدي الصوت يتردد بقوة ووضوح في جوفها المغلق، قال الساحر لصديقي سأردُّ عليك بعد ربع ساعة لأبلغك جوابي، أخافني تذبذب الصوت كأنني في مكان مسحور بل غارق بالشعوذة والسحر وطلبت من صديقي ان يترك الأمر لوقت آخر، أنا لم أمر بموقف كهذا من قبل، خشيت النتيجة التي ستزيد عذابي عذابا، وحين رن الموبايل من جديد، تصادي صوت الساحر في فضاء السيارة المغلق وطفقت الكلمات تتدفق برهبة: هؤلاء يسيرون في طريق مغلق، وفي رحلتهم هذه تفوح رائحة غدر حادة تزكم الأنوف، إنها باختصار رحلة غدر لا تقودهم الي ما يأملون).
صدمتني حكاية جمال هذه وعززت ما قالته العجوز قبل قليل، هل نحن فعلا في الطريق الخاطئ وهل هناك رائحة غدر في هذه الصفقة المتعثرة؟؟.
قلت لجمال الرسام:
- وهل تعرف ماذا قالت العجوز قبل قليل؟
- أعرف ... إنها أكدت كلام الساحر، أليس كذلك؟
- بالضبط.
- والآن هل تعتقد اننا نسير بالاتجاه الصحيح؟
- أليس العائلة في طريقها الي أوربا؟.
- وهل عبرتْ؟
- لا أعرف.
- سنعرف كلانا بعد قليل.
غصَّ قلبي بالهم وأنا أتلقي الصفعات واحدة تلو الأخري وبدأ النهار يذوي وتدحرجت الشمس نحو أعماق المحيط، واصطبغت المياه السماوية بصبغة ذهبية باهتة وحلَّقت الطيور البيض فوق سطح الماء، وبدت الزوارق تتوالي في الدخول الي الاعماق، كان الموج هادئا بعد صدمة العجوز والساحر وربما مترددا، هدأت روحي قليلا وأخذت صديقي جمال من كفه باتجاه الشاطئ وتأملت هذا البساط الأزرق الممتد الي ما لانهاية، وسألت نفسي، هل ستنتهي الاحلام التي لا تحدها حدود؟ ثم قلت لجمال الرسام: إنظر اذا تقدمنا في المحيط بهذا الاتجاه سنصل الشواطئ الإيطالية وبهذا الاتجاه سنصل السواحل الأمريكية.
كانت الزوارق تجوب المياه القريبة، ومع رائحة الغروب التي بدأت تنتشر في المكان صعدتُ في أحد الزوارق انا وجمال الرسام، وما لبث أن أصبح الزورق سفينة عملاقة مخرت عباب المحيط تحثُّ خطاها الي الاعماق باتجاه السواحل الايطالية، كل شيء كان سهلا، انها تمضي الي الأمام بسلاسة، انها تمضي الي الهدف بثقة وهدوء، إنها تنقلنا الي جنائن الضوء، إنها تحقق لنا أحلامنا، لا شيء يصدها، لا رائحة غدر ولا خديعة ولا عوائق تذكر من أي نوع كانت، وكم تمنيت لو ان الحياة تسير الي نهايتها مثلما تتهادي هذه السفينة الآن ببساطة مدهشة، لم يكن حلما بل حقيقة قائمة حين رن صوت الموبايل في جيبي وأعادني الي الشاطئ مرة أخري، كان صوت صديق معي:
- ألو....
- نعم....
- أين أنت...
- عند الشاطئ....
- هل عرفت آخر الأخبار؟.....
قفز قلبي في صدري وضغطت بشدة علي كف جمال الرسام، وأغلقت الخط، كأنني سقطت من علوٍّ شاهق، تذكرت استخارة إبنتي وقلت لجمال:
- لقد ألقوْا القبض علي العائلة في نقطة العبور الي أوربا ....
علي حسين عبيد