طرائق الكتابة وحافة الجنون.. الجنون حالة بيولوجية تؤشر على وضعية نفسية تجعل صاحبها يخرج عن الأنساق العقلية



طرائق الكتابة وحافة الجنون:

يقتضي الحديث عن الجنون وطرائق الكتابة الحديث عن تجارب فكرية وفنية وأدبية مخصوصة دخلت تجربة الحمق وكتبت خلالها وبعدها، أي الجنون بوصفه حالة بيولوجية تؤشر على وضعية نفسية تجعل صاحبها يخرج عن الأنساق 'العقلية'.
وفي هذا الصدد فان أعمال موبسان وفان جوغ وارتو والتوسير تستدعي تأملا عميقا من اجل إدراك إبداعية هؤلاء وتأثير الحمق على إبداعاتهم. ومن ثمة إدراك التحولات الجمالية التي لحقت بأعمالهم.

العيش على نحو مغاير:

ويسعفنا تاريخ الأدب في تلمس طرائق الكتابة لمن فضل أن يعيش على نحو مغاير اصطلح عليه بالجنون. لويس اراغون المفتون بعيون الزا، فان غوخ الذي فضل قطع أذنه وتقديمها هدية لامرأة عابرة، ومارتن هايدغر الذي جعلته أشعار هولدرلين يعيد التفكير في ماهية الشعر ووظائفه الوجودية...
قد يكون الجنون هو الإخلال بالأنساق الرمزية المشكلة للمعنى الشعري، وقد يكون هو الدافع إلى خلق استعارات جديدة تتجاوز البلاغة التقليدية الرديف الأساسي للميتافيزيقا.
لكن الأمر يتطلب التقصي العلمي الدقيق والإنصات لأسئلة مشرعة على إجابات متعددة طالما أن تجليات الجنون في الخطاب الأدبي المعاصر لم يتم تناوله بالدقة الكافية.

الجنون في العصر الكلاسيكي:

استحضر في هذا السياق ما كتبه صاحب جينالوجيا المعرفة، ونظام الخطاب والانهمام بالذات، وإرادة المعرفة، والكلمات والأشياء، والمراقبة والعقاب عن الجنون واقصد كتابه تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي. والذي تناول فيه العلاقة بين الجنون والعقل منذ القرن السادس عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين.
الكتاب الذي ألفه ميشيل فوكو أثناء إقامته بالسويد (1961) كان عملا جينالوجيا دقيقا ركز على فحص وتحليل الأفكار والممارسات والمؤسسات والفنون والآداب المرتبطة بالجنون في التاريخ الغربي.
ولقد انصب اهتمام صاحب الحراسة والعقاب على العصر الكلاسيكي (القرن السابع عشر والثامن عشر) وهو العصر الذي شهد بزوغ العقلانية في اوجهها الصارمة، وعمل فوكو عبر حفرياته المعرفية على النبش في مفاهيم مثل العقل والجنون وعدم التسليم بالبديهية التي ترجع تموقع الجنون والعقل على طرفي النقيض.

اضطهاد المجنون:

فوكو تأمل فضاءات متعددة من قبيل السجن، المستشفى، امكنة الحجز، ولم يفته الاشارة الى مجموعة من الظواهر التاريخية مثل الإصابة بالجذام وتواري المصابين به عن أنظار الناس، وسفينة المجانين التي ظهرت في القرن الخامس عشر والإبحار بهم إلى أماكن قصية، وممارسات السحر والشعوذة.
ويعتبر فوكو أن ظهور المارستان أو المستشفى كان بمثابة أداة للقمع تهدف إلى اضطهاد المجنون وإسكاته بدعوى مصلحة الدولة والمجتمع.

الحمق والخطيئة:

تصفح ميشيل فوكو أعمالا أدبية لسيرفانثيس وشكسبير بوصفها أعمالا تتضمن استيهامات تحيل إلى الحمق، والأمر نفسه ينطبق على أعمال غويا ونيتشه ونيرفال وارتو وساد.
ولقد كان الحمق مرادفا للخطيئة، واعتبر الحجز لسنوات طويلة المكان الأنسب للتخلص من هذه الخطيئة. واعتبر فوكو ان الحجز والطب شكل من أشكال الحراسة والعقاب، لأنها مسخرة لقهر حالات الهذيان والانفعالات عبر الضبط والمراقبة.
ويؤكد ـ الخرائطي الجديد - ان اماكن الردع والترويض قد انهارت بعد الاعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث سيصبح القانون هو الحكم في معالجة مختلف الحالات.

جنون العباقرة:

ولقد أنتجت لنا الحالة الباتولوجية للمجنون أعمالا مدهشة لا يستطيع العقل إنكار أهميتها وطاقاتها الخلاقة وهو ما اسماه فوكو بجنون العباقرة (نيتشه، هولدرلين..).
وإذا كان عمل ميشيل فوكو قد ساهم في تغيير النظرة إلى المجنون-المبدع فان الفكر العربي لا يزال يعيد استهلاك رؤى كلاسيكية بصدد هذا المفهوم.
ويسعفنا الدرس الفوكاوي في فهم طبيعة هذا المفهوم الذي اكتشفنا أن له تاريخه الخاص وان مؤسسة الطب النفسي متواطئة مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع.

جنون اكلينيكي:

ومع ذلك فقد ساهمت مؤسسة التحليل النفسي تحت إمرة لاكان في تفسير دوافع صاحب فلسفة العلماء العفوية لويس التوسير في قضية مقتل زوجته.
الأمر يتطلب دراسة متأنية لكتابات هؤلاء أثناء وبعد تجربة الجنون. والشاعر ليس حتما مجنونا اكلينيكيا، لأنه كائن زئبقي لا يحتاج إلى الترويض ليتم السيطرة عليه واستغلاله من طرف العلوم المسماة (إنسانية).
وخلافا لما روجته وسائل الإعلام الفرنسية فلم يكن جنون الانتحار هو ما دفع بجيل دو لوز للموت من أعلى شرفته، لأن الفلسفة قبل اسبينوزا لم تعد مرتبطة بالسماء بل بالأرض ووحدهم الشعراء من تحمل أعباءها.

جنون حقيقي:

الشاعر كائن يحس الأشياء إحساسا كشفيا، يعيش حياة عادية لكن رؤيته للذات وللعالم لم تكن يوما عادية. يكتب وفقا لإيقاع أحاسيسه ولاتهمه الأبواب التي أوصدها أفلاطون في وجهه، ولا حدود الأجناس الأدبية، أو العمارة الأفقية والعمودية للنص الشعري. لأن مهمته هي إعلانه الصريح الدخول إلى مغامرة الكتابة والإيمان - الارثوذوكسي- بأوهامها ومن هنا يأتي ما يعتقده الناس جنونا.
الم تكن حياة محمد شكري جنونا حقيقيا جعلت منه طرائق الكتابة أدبا يكشف زيف الحياة وتناقضاتها؟
وإذا كانت مدام بوفاري لم تعش الحمق بل المفارقة بين الواقع وما كانت تقرأه حول الأبطال في الروايات الرومانسية مثلها مثل دون كيشوت، وانا كارنين لتولتسوي، فان قلب الرؤية الأخلاقية كان مجازفة كبرى اعتبرها البعض جنونا حقيقيا أدى بصاحب مدام بوفاري إلى اتهامه بالإساءة إلى أخلاق طالما اعتبرت نموذجا للأخلاق الحميدة.

انزياح عن المألوف:

قد يكون الجنون هو ما يدفعني لقطع أميال لرؤية غروب الشمس في الصحراء، وقد يكون الجنون هو ما يجعلني أحس بتجاعيد عجوز تنتظر عودة حفيدها الذي امتطى صهوة قوارب الموت ولم يعد أبدا؟
وقد يكون الجنون هو الدافع لقبول فتاة في العشرين من عمرها تعليم أطفال المناطق النائية أبجدية اللغة العربية لتلقى حتفها في زلزال مفاجئ بشرق المغرب.
الوقوع فيما يسمى جنونا معناه الانزياح عن المألوف والمعتاد، وبذلك يأخذ هذا المفهوم صيغة الخلخلة والخروج عن القيم السائدة. استحضر هنا ما كتبه فريديريك نيتشه في هكذا قال زارادشت.. والشاعر يريد أن يكون هذا الزارادشت المالك لإرادة القوة والرغبة في العيش في ارض لا يعرف نعيما آخر غيرها.

الجنون رفض وكرامة وحب:

الجنون مرادف للرفض، رفض خليل حاوي الاجتياح الإسرائيلي للبنان وتفضيله الموت على رؤية الغزاة وهم يدنسون زهرة بيروت.
والجنون أيضا مرادف للكرامة كما هو الحال مع الشاعر المغربي كريم حوماري الذي فضل الموت على أبواب ميناء أصيلة بدلا من الإهانة. أتمنى لو امتلك هذه الجرأة يوما لأرى اشراقة الورود في دروب العدم.
الجنون مرادف للحب الم يكن العصف بالعلاقة الحميمة والقوية بين نيتشه وفاجنر جنونا أبدع أروع ما ألف فاجنر من سيمفونياته، وأجمل ما تركه نيتشه حول الحب 'لقد حلق طائر في سماء غرامي فاختطف الذي أحببته لكنه كان طائرا ولم يكن نسرا وفي ذاك عزائي'.

جنون العشق:

الجنون احتفاء بالحياة ليس على شاكلة الرومانطقيين، ولا شاكلة الواقعية المميتة، فالشعر احتفاء بالعزلة الجديدة وسط الهيمنة المطلقة لمحمولات الثقافة الالكترونية. إنه محاولة فاشلة لإيجاد أجوبة للهزائم المتتالية.. 
الجنون عشق 'والعشاق إذا اشتاقوا ذلوا' الأمر يحيلنا على سؤال الحرية التي تهبنا القدرة على السفر وركوب المخاطر. تسعى القيم والتقاليد إلى بسط سلطة الخضوع ويسعى الجنون إلى الخروج عن هذا التقليد وحالة العقم من اجل امتلاك إرادة الذات والإنصات لخفقان القلب وتلمس ألوان الحواس ومراقبة العالم وهو يضحي بإنسانيته لصالح بربرية مالكة لوسائل تقنية متوحشة.

التغني بالحياة:

إنه الطاقة العاطفية التي تجعلنا نخرج عن وهم التوازن الذي تولده لدينا مؤسسات (القيم، العمل، الزواج..) حقا لقد توقف آرثر رامبو عن الكتابة لانه فقد كمية كافية من أوكسجين الحياة. ولقد توقف عدد من الشعراء والأدباء عن الكتابة لان اكراهات الحياة جعلتهم كائنات بلا طاقة إبداعية. الجنون هو القدرة الامتناهية على اللعب والمرح والتغني بالحياة بكل إخفاقاتها.
إنه الإمكانية الوحيدة التي تجعلنا بالقرب من خادمات ماركيز وفاتنة لوركا اقصد الفتاة الذهبية التي تستحم في النهر فيكتسي الماء لون الذهبي.

1-العنوان الأصلي لكتاب تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي هو:
Michel Foucault, Histoire de la folie ê l'ëge claique, Gallimard, 1972 
*le fou dans la li'rature europ'enne du moyen age est un personnage qu'on trouve dan le th'ëtre son r'le est de faire rire le roi.
عبد السلام دخان


المواضيع الأكثر قراءة