تطبيق جريمة القتل على وسائل النقل الحديثة



وسائل النقل بين التطور والحوادث:

حملت وسائل النقل الحديثة الخير الكثير في إحكام اتصال البشر بعضهم ببعض وسرعته، وفي التخفيف على الإنسان من تحمّل كثير من المشاق التي كانت تتطلب مجهوداً عضلياً، فحملت الإنسان والسلع والأمتعة الخفيفة والثقيلة ووزعتها في إطراف الكون حسب إرادة الإنسان، ولكن الآلات الناقلة للإنسان وأمتعته قد تطحن الإنسان طحناً مرعباً، فحوادث القتل، وعدد الأشخاص المقتولين والمشوّهين يزداد مع انتشار هذه الوسائل في جميع بلدان العالم ازدياداً كبيراً.

تنظيم السير في الطرقات:

وقد نظمت الدول السير في الطرقات، وأصدرت قوانين ترعى المصلحة لمستعملي الطرقات، ولسائقي وسائل النقل. وذلك من السياسة الشرعية التي يجب احترامها بتطبيق ما جاءت به، ويعتبر الخارج عليها متعدياً، فمثلاً حددت السرعة بصفة مختلفة بين مناطق السير، وأوجبت على سائق المركبة ألا يستخدم مركبته إلا إذا أجريت عليها فحوصات المتانة والأمان.

وفرضت على من يسوق مركبة أن يحصل مقدماً على شهادة كفاءة للسياقة الخصوصي والعمومي، وحددت أماكن للوقوف، ومنعت من الوقوف في أماكن أخرى ونحو ذلك. فمن تسبب وهو يسوق مركبة في قتل، فإن كان الحادث قد وقع وهو مطبق للتعليمات والإرشادات المرورية فله حكم المستعمل حقه بدون تعدِّ، وإن كان متجاوزاً للنظام العام في السير فله حكم التعدي ، وكلما التبس الأمر كان للخبراء العدول القول الفصل في تعيين المتعدي ونسبة تقصيره.

مسؤولية السائق:

فقد تنتفي المسؤولية عن السائق لأسباب خارجية كما في حال الاصطدام بمركبة أخرى، وكان الخطأ مائة بالمائة من سائق تلك المركبة، وما عدا هذه النسبة يُسأل عن مقدار مساهمته في الخطأ ، بحسب تقارير الخبراء.

وتنتفي مسؤولية السائق أيضا في حال وجود عوائق الطرقات إذا تعذر تجنبها ولم يكن مسرعاً أكثر من المعتاد، ومن أمثلة ذلك: حالات القوة القاهرة، والحادث المفاجئ، وخطأ المتضرر نفسه أو خطأ شخص آخر. 
لكن إذا خالف السائق أنظمة المرور كالسير في اتجاه ممنوع أو معاكس، فيكون هو المسؤول عن الحادث لأنه متسبب، وقد يكون المتسبب وحده هو الضامن في فقهنا إذا تغلب السبب على المباشرة، ولم تكن المباشرة عدواناً.

القتل الخطأ:

وإذا رأى السائق سواداً أمامه يظنه عنزة مثلا فإذا هو إنسان، فيدعسه. أو إذا أراد السائق تجنب صدم دابة كجمل أو غنمة، فيقع خلل في عجلة القيادة، فيصدم إنسانا فيقتله، فإن هذا القتل الخطأ لا يعفي السائق من المسؤولية، وإنما تجب عليه الدية والكفارة، لكن الدية في القتل الخطأ على العاقلة (العصبة عند الجمهور)، والكفارة على القاتل، ويحرم من الميراث إن كان المقتول قريباً مورّثاً له في رأي الجمهور غير المالكية، كما يحرم من استحقاق الوصية عند الحنفية مطلقاً، وعند الحنابلة إن حدثت الوصية قبل الجرح والقتل.

القتل بالتسبب:

وأما القتل بالتسبب كانقلاب شاحنة صغيرة على شخص بسبب مرور سيارة كبيرة، والهواء متوسط الشدة، فله حكم القتل الخطأ أيضاً عند الحنفية، فيوجب الدية والكفارة فقط، ولا كفارة فيه عند المالكية والحنابلة، ويؤدي إلى الحرمان من الإرث عند الشافعية والحنابلة خلافاً للمالكية، وكذلك الحرمان من الوصية عند الحنابلة خلافاً لبقية الفقهاء.

الكفارة الواجبة في القتل الخطأ:

وأما الكفارة الواجبة شرعاً بنص القرآن الكريم في القتل الخطأ، فيكفي كفارة واحدة وإن تعدد القتلى عند الحنفية وبعض الحنابلة كالخرقي وأبي بكر المرُّ وذي، لأن حقوق الله مبنية على المسامحة، ولأن الكفارة جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها، أو حدث السبب دفعة واحدة، ويلزم المسؤول عن القتل بكفارات بعدد القتلى في رأي المالكية والشافعية واختيار بعض الحنابلة.
وله حكم العمد إن تعمد الفاعل في رأي الجمهور، ولكن الحنابلة يخير أولياء الدم بين القصاص وأخذ الدية.

مسؤولية مالك وسيلة النقل:

ومالك وسيلة النقل يكون مسؤولا عن حوادثها إن كان هو الذي يقودها، فإن قادها سائق مستأجر وأخطأ في وقوع الحادث، فيكون من حيث المبدأ هو المسؤول، لكن يتحمل متبوعه من حكومة أو شركة مالكة تبعة هذا الخطأ في النهاية، فيدفع الدية، أو تلزم شركة التأمين التعاونية الإسلامية بدفعها.

أحكام التصادم:

واذا وقع التصادم بين المركبة وجماعة كانوا سائرين، فإنه بناءً على ما قدمناه من أحكام التصادم: إنهم إذا كانوا متعدين في سيرهم فدمهم هدر عند أبي حنيفة، ولا دية طبعاً؛ وذلك لأن من حق صاحب وسيلة النقل أن ينتفع بها في الحدود المضبوطة، فإذا لم يتعد فلا يتحمّل ضماناً ولا كفارة عليه طبعاً، وأما الدية فالاختلاف هل تجب كاملة أو نصف دية، أو هي لا تجب باعتبار أن القاتل غير متعد في تمتعه بالسبب الذي ترتب على استعماله القتل.

وأما إن كانت المركبة واقفة في مكان يجوز لها أن تقف فيه، فترتب على وقوفها موت جماعة، فدمهم هدر ولا كفارة، وإن كان في مكان تُعدِّي بالوقوف فيه، فالضمان بالدية، ولا كفارة عند أبي حنيفة.

وإن اصطدمت مركبتا نقل خطأ، فمات جماعة من هؤلاء وهؤلاء؛ فالاختلاف بين العلماء في وجوب نصف الدية على عاقلة كل من السائقين أو نصف الدية ، ووجهة نظر الحنفية أنه لا كفارة على أي من السائقين المصطدمين.