تراجع استعمال اللغة الفرنسية عالميا من حيث نسبة الناطقين بها وإنتاج الفكر والعلوم الإنسانية



تعاني اللغة الفرنسية حالاً حادة من الانحسار الشديد والتراجع المتزايد في المجال التداولي العالمي، وهي حالة تعاظمت ظواهرها واستفحلت أكثر خلال الثلاثين عاماً الأخيرة وعلى نحو أعجز فرنسا والمؤسسات الفرنكوفونية العالمية عن الاحتواء والاستيعاب والتدارك.

والانحسار هذا يدرك من وجهين، كمي ونوعي:
فأما الوجه الأول منه، فيمثله تراجع رقعة انتشار الفرنسية في العالم وتناقص نسبة الناطقين بها ومستخدميها في العالم.

إن موقعها اليوم أمام اللغات العالمية الكبرى والوسعى انتشاراً، مثل الإنجليزية والصينية والإسبانية والعربية والهندية، موقع في غاية التواضع إن قيس بما كان عليه أمره قبل جيل من اليوم، وهي نسبة تزيد ضموراً وانكماشاً في امتداد ارتفاع نسبة الناطقين باللغات الأخرى الكبرى.

استفادت الفرنسية، في الماضي، من مستعمراتها التي نشرت فيها لسانها أكثر مما استفادت من قوة لسانها. لكن بعض تلك المستعمرات، بعد تحررها، اهتمت بلغتها الوطنية وانتبهت إلى لغات عالمية أخرى أهم من الفرنسية، فقامت بتصميم نظامها التعليمي على مقتضى التوازن بين سيادة اللغة الوطنية الأم وتوطين لغات المستقبل، وخسرت الفرنسية من ذلك الشيء الكثير.

وأما الوجه الثاني من ذلك الانحسار، فيمثله تراجع الفرنسية كلغة فكر وعلم وتقنية وإبداع أمام غيرها من اللغات التي هي أكثر تأثيراً في حقل المعرفة اليوم إلى حدود السبعينات من القرن العشرين الماضي، كان في وسع اللغة الفرنسية أن تنافس مثيلاتها من لغات العالم الكبرى، كانت فرنسا ما تزال تنتج الفكر والعلوم الإنسانية، مستفيدة من الفكر الألماني وثقافة العالم الأنكلوساكسوني، وتنتج الآداب والفنون، مستفيدة من أقلام الأدباء والمبدعين الفرنكوفونيين من أصول أوروبية شرقية (كونديرا، إميل أجار..) وعربية (الشرايبي، كاتب ياسين، محمد خير الدين، رشيد بوجدرة، أمين معلوف، اللعبي، الخطيبي، بنجلون..). وحينها أيضاً، لم تكن مساهمتها في إنتاج المعرفة العلمية والتقانية قد تراجعت . أما اليوم، فلم تعد المساهمة الثقافية والفكرية والعلمية الفرنسية تكاد تذكر أمام ما تقدمه ثقافات أخرى معاصرة . واللغة  أية لغة  لا تحيا وتفشو إلا متى حُملت عليها ثقافة ذات إشعاع وأثر.

لو أخذنا مثالاً واحداً لتراث فرنسا المعاصر، هو الفكر والفلسفة والعلوم الإنسانية، لتبينا إلى أي حد تدهور مركز الثقافة الفرنسية في الفكر الإنساني المعاصر خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

فلقد كادت الثقافة الفرنسية  بين الخمسينات وأوائل الثمانينات  تضارع الفكر الألماني في القيمة والمكانة والإشعاع. عاشت، حينئذ، عهدها الذهبي الذي ما عرفت مثله منذ عهد فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر، ولعلعت أسماء مفكريها الكبار في الفضاء المعرفي الكوني: من جان بول سارتر وكلود ليفي ستراوس وجاك لاكان إلى بيير بورديو وجيل دولوز وجاك ديريدا مروراً بفرفان بروديل ولوي ألتوسير وميشيل فوكو وبول ريكور. ولم يبق اليوم من تلامذة هؤلاء إلا قلة قليلة منها ألان باديو وريجيس دوبريه.. الخ . أما ما تبقى، فيكاد يشبه الفراغ.

للمرء أن يقول الشيء نفسه في الأدب: لم تعد فرنسا تنتج شعراء من طراز أراغون، أو روائيين من طراز بلزاك وإميل زولا، أو حتى من طراز غي دي موباسان وناتالي ساروت وألبير كامي. ولم تعد مساهمتها في الموسيقا الكلاسيكية تنافس مثيلاتها في ألمانيا وروسيا وإيطاليا والنمسا، ولا إنتاجها السينمائي يستحق الذكر.

والأسوأ من هذا كله  وبأثر من هذا كله  أصبحت تستهلك من منتوج الآخرين، في المعرفة والآداب والفنون، أكثر مما تنتج! فكيف للغة الفرنسية، والحال ما قد رأيت، أن تستمر لساناً جاذباً ذا أثر؟ بل كيف لها ذلك فيما الإنجليزية باتت تخترقها في عقر دارها؟

قوة أية لغة في هذا العصر من قوة مجتمعها وثقافته. انتهى الزمن الذي كانت تحمل فيه لغة على صهوة دبابة لتفرض نفسها، بقوة السلاح، على شعوب أخرى (كما فعلت الفرنسية في العالم منذ مائتي عام). لا تكون اللغة قوية إلا متى كانت لغة مجتمع ينتج العلم والمعرفة والتقانة والآداب والفنون على أرفع مستوى ومثال، وليس ذلك حال فرنسا في هذا الزمن، ففرنسا دون الولايات المتحدة  وبريطانيا  في إنتاج العلم والتقانة، وثقافتها دون الثقافة الألمانية في الإنتاج الفكري والفلسفي، وهي دون الثقافات الإسبانوفونية في الإنتاج الأدبي، كما أن نسبة حضورها في إنتاج القيم الفكرية والعلمية في العالم هزيلة هزالة نسبتها في الإنتاج الاقتصادي والتكنولوجي على الصعيد الكوني.

كانت الفرنسية في حسبان بعض طريقنا إلى العالمية، وهي اليوم من أكثر الحوائل والعوائق أمام هذه العالمية في نظر عقلاء القوم. لم تكن مشكلتنا يوماً، منذ أن تحررنا من الاستعمار الفرنسي، مع اللغة الفرنسية.

فقد كنا وما نزال  نقرأ بها ونقرأ آدابها وإنتاجات مفكريها من دون عُقد، إنما كانت مشكلتنا وستظل مع الفرنكوفونية كإيديولوجيا وكأداة من أدوات تجديد السيطرة الثقافية واللغوية على مجتمعاتنا، إذ هي بذلك تضع نفسها في مواجهة مصائرنا كفعل من أفعال العدوان السافر.

مشكلة الفرنسية في المغرب والمغرب العربي (وقسم من مجتمعات إفريقيا) أنها لا تريد أن تكون لغة من لغات هذه المجتمعات: تحترم لغاتها الوطنية وسيادتها وتتنافس  بشكل شريف  مع غيرها من اللغات الأجنبية . إنها تسعى في أن تكون اللغة الوطنية والرسمية، وفي أن تسيطر في التعليم والإدارة والمال والأعمال والاقتصاد، كما لو أننا مازلنا تحت “الحماية”، كما لو أننا ما تحررنا ولا نلنا استقلالنا السياسي والوطني . وليس في مُكْنِ أي شعب ومجتمع ووطن حر سيد يحترم نفسه أن يقبل ذلك أو يرتضيه لنفسه واقعاً ومصيراً.

إن سعي الفرنسية المحموم لإزاحة اللسان الوطني تحت عناوين مختلفة، يدفع الكثيرين إلى التساؤل عن سر هذه المكانة الاعتبارية التي تُمنح لها في المغرب والمغرب العربي عموماً، وعن المسؤولية عن منحها تلك المكانة على نحو يخالف دساتير هذه البلدان ويضعف موقع العربية في الحياة العامة.

ولعل ذلك أيضاً يدفع آخرين إلى التساؤل لماذا لا تمنح اللغتان الإنجليزية والإسبانية مثلاً  وهما أوسع انتشاراً في العالم  الامتياز عينه الذي وقع تفويته للفرنسية؟

لماذا يراد إحياء الفرنسية بألسنة عشرات الملايين من غير أبنائها، ومن خارج حدودها في زمن تسعى فيه شعوب وأمم إلى تعظيم لسانها القومي وتعلم لغات العصر الكبرى كالصينية والإنجليزية والإسبانية التي يتحدث بها ملايين البشر؟

وبعد، حدث أن كان للفرنسية تاريخ لغوي وثقافي مجيد، ولكن البقاء لله وحده.
عبدالإله بلقزيز