نظرة عامة إلى دور الفرد البارز من خلال واقعنا العربي الحديث.. ربط الخيبات أو النكسات أو المصائب بأفراد معينين لإخفاء مسؤولية الآخرين



نظرة عامة إلى دور الفرد البارز من خلال واقعنا العربي الحديث:

تظل لهذا الموضوع أهميته وآنيته كوجه من  وجوه الحياة العامة حياة كل شعب فيما تولاه رجاله البارزون فأصابوا فيه أو أخطأوا.
ولا يزال تاريخنا الماضي بحاجة لأن تعاد كتابته من وجهة نظر أبناء هذه العصر ويضارعه في الأهمية تاريخنا المعاصر والدور الذي لعبه فيه الرجال البارزون وتقييم ما قاموا به لأن هذا الماضي القريب ألصق بحاضرنا أو أقرب إلى العظة والعبرة والتأمل بغية مواصلة المسيرة.

التاريخ القريب وأثره في الحياة:

ولا ريب في أن معالجة هذه المشكلة، في تاريخنا المعاصر، أمر يشجر حوله الخلاف ويستحر النقاش لتفرق الآراء والأهواء، ولكن لا ينبغي لذلك أن يصد الباحث عن حقيقة التاريخ القريب وأثره في حياتنا الراهنة ولاسيما وأن ظاهرة خطيرة تستوقف النظر بدأت تلف عالم الفكر لدينا لأسباب لا مجال هنا لاستقصائها ألا وهي إغفال دور هؤلاء الرجال والتقليل من شأنهم أو الانتقاص من قدرهم أو تجاهلهم والتعفية على آثارهم دون تحليل أو تدقيق وإنما بحكم كيفي فردي المنزع مصلحي الغرض يخرج هؤلاء الأفراد من حيز الاهتمام والتقدير والتقييم وحتى من التاريخ.
وإن ما حاق بمعظم هؤلاء الرجال ليس سبباً كافياً لهذا التجاهل أو الانتقاص.
لهذا لا بد من إعادة النظر فيما أتوه وتمحيص ما تم تجاهله أو الغض منه.

وعي الطبقة:

وإذا كانت ثمة كلمة عامة تقال، إنصافاً للكثيرين من هؤلاء الرجال فهي أن الأحلام التي حملوها أو حملت لهم لم يكن بالكافي وعيها حتى تتحقق بالفعل لأن للفعل طريقه في وعي الطبقة كذات وموضع للصيرورة، وهو أمر التبس واقعاً وانعكس في الفكر أشكالاً فكان منه التردد وما يخلفه من وعي طبع بطابعه النفوس فلم تخرج عن حيز المراوحة، وكان منه العجز وما أعقبه.

العجز المسبق عن التأثير في الأحداث:

لقد وقر في أذهان معظم هؤلاء الرجال العجز المسبق عن التأثير في الأحداث بل صنعها إضافة لما كانوا يمثلونه من وعي مضطرب أو غائم أو متخلف فوقعوا ضحية مؤثرين: قصورهم الذاتي وقصور الوعي العام واضطرابه وتشوهه وذلك لأن بقة جديدة ما لم تعلن في عالمنا عن سر وجودها الكامل لتشكل بوجودها الواقعي ووعيها الانحلال الفعلي للنظام أو الأنظمة التي سبقتها، وبالتالي لم تستقم لها نظرية هادية تكشف عن حقيقتها ومراميها.

التعبير الواقعي عن الفكر:

ولم يرتبط هؤلاء الرجال بالتحول أو الثورة أو بالرغبة في أحدهما إلا بروابط واهية غير مفهومة لم تكن في جوهرها إلا التعبير الواقعي عن الفكر المشوش المضطرب لمعنى الصيرورة مأخوذة بشكل ذرائعي لاعقلاني حاول من خلاله هؤلاء الرجال التوفيق بين المتناقضات من خلال حلول أو ردود فعل تعمل وكأنها مجموعة من المصادفات.

تطور الوعي العام:

لقد مر هؤلاء الرجال كالطيف أو الكابوس، في خيال جيل يتلو جيلاً لا يشعر بالاستمرارية قد شعوره بالانقطاع والانفصام.
وككل الأحلام التي لم تتحقق أو الأحلام المزعجة أو أحلام جحا التي نصفها صدق ونصفها كذب، ينأى الإنسان عن استعادتها أو الإشارة إليها في حين أن الحاجة الزمنية تملي بشأنها غير ما يمليه الإحساس المباشرة، ولا بد من استعادتها وتحليلها لأنها مرحلة من حياة الأمة وإن تكن لها نواقصها ومنغصاتها، وهي تمثل مرحلة من مراحل تطور الوعي العام الذي يحتاج، بدوره إلى التحليل والتقييم حتى يستقيم أمره على شكل أصح وأدق وأصفى، ولأن الحاضر لا يلغي الماضي فالماضي بعد من أبعاده وإنما يتجاوزه جدلياً بإسقاط مراث منه واستبقاء ما يعين على مواصلة الطريق.

الرؤية الصحيحة:

ينبغي لصورة أولئك الرجال أن تظل قيد التأمل والتمحيص فأية ظروف موضوعية أطلعتهم وأية إمكانات كانت لديهم وأية أخطاء ارتكبوها حالت دون نجاحهم، وهل كانت تلك الأخطاء الجسامة بحيث بدلت من سياق الأحداث وكيف تم ذلك، ولم انعدمت القدرة على عدم تمكينهم من ارتكابها، وفي الحال المقابلة لماذا قعدت بهم همتهم عن بلوغ ما كانوا يرجونه مع استجماعهم الرغبة والطموح والرؤية الصحيحة وما هو مكان الحادث العارض أو الطارئ أو الأحداث الخارجية أو المصادفة في تبديل بعض السمات الأساسية أو الجزئية لما كان يؤمل لسياق الأحداث.

ربط الظواهر الإيجابية والسلبية بالسياق التاريخي:

وتبعاً لذلك فلا مناص من التعرف على جميع الظواهر الإيجابية والسلبية وربطها ربطاً جدلياً بالسياق التاريخي في ملابساته المعقدة وإبراز العلاقة الجدلية بين أثر الفرد وأثر الظروف الموضوعية لوضع الأحداث موضعها من الكلية والصيرورة التاريخية.
إن ظاهرة تحميل هؤلاء الأفراد المسؤولية كلها ومن ثم استبعادهم من منال الفكر والتقدير وتناسي ما كان لهم من دور أو أثر أمر ينم على ظاهرة سلبية أو مرضية تشبه فقدان الذاكرة، والطب النفسي يعطينا صورة عن الاختلال الذي يعتري المصابين بذلك، وليس الأثر بأمل ضرراً في حياة الأمم والشعوب.

الأفراد والتنظيم السياسي:

وفضلاً عن ذلك فهذه الظاهرة تخفي وراءها داء أمضى وأدهى إذ تنطوي على النظرة إلى هؤلاء الأفراد بمعزل عن التنظيم السياسي الذي كانوا يتولونه أو الجماعات التي كانت تظاهرهم أو كانوا يمثلونها. وقد أعطت الحياة أكثر من دليل، بلغ حد اليقين، على أن تلك البنيات التي قاموا عليها كانت تحمل بذور الوعي القاصر نفسه والعجز والتردد نفسيهما وكانت تحمل بذور الخطأ الذي ارتكبه هؤلاء القادة.
وزوال هؤلاء القادة عن مسرح الأحداث، بسبب أو بآخر، لم يبدل من الأمور شيئاً ولم يقِ من الوقوع في أخطاء مماثلة أو احتمال الوقوع فيها، رغماً أن بعضهم كان يتمتع بشعبية غامرة وبتأييد جماهيري كبير.

التطلع إلى المستقبل:

وهذه الظاهرة تدعو لتأمل درجة الوعي التي بلغتها تلك الهيئات السياسية الوسيطة وحتى الجماهير نفسها وهو موضوع كبير ولكنه يظل جديراً بالدراسة وحاجة ملحة يقتضيها الحاضر كما يقتضيها التطلع إلى المستقبل.
إن ربط الخيبات أو النكسات أو المصائب بأفراد معينين يقصد منه أحياناً إخفاء مسؤولية الآخرين، على مختلف المستويات، الذين كانوا يشاركون في تلك القرارات السياسية والاجتماعية أو يدفعون إليها أو يوحون بها أو يؤيدونها.

الوهن المعنوي الذاتي:

إن المشاركة في الخطأ، بداية أو تقبلاً، ومحاولة التملص من الاعتراف به يشكل وجهاً من وجوه الوهن المعنوي الذاتي وعدم الرغبة في ممارسة النقد الذاتي وبالتالي انعدام الرغبة في تصحيح الخطأ وسد الثغرة التي ينفذ منها مع الرضا بالواقع الآسن الراكد.
كما ينوي، علاوة على ذلك، على عملية تمويه أو تضليل عن طريق الإيحاء بأن الحال قد تبدلت أو ستتبدل باستبدال فلان بفلان، أي بزوال «السبب» أو «الأسباب» الداعية لها والتي تتلبس، عادة، شخصاً بعينه أو عدة أشخاص ومن ثم تعطى البراءة للجميع.

محاسبة النفس:

وهذا الشعور«المريح» أو الضمير «المطمئن» يعفي من محاسبة النفس جميع الذين أسهموا مع «الضحية» في الحياة السياسية من منظمات وهيئات وحتى من جماهير، وبذلك تفتقد العلاقة الجدلية، التي ألمعنا إليها، بين الدور الذي يلعبه الرجال البارزون وبين الواقع وشرائطه ودرجة الوعي لدى المنظمات والهيئات السياسية والجماهير المؤيدة لها.
وبالمقابل فثمة سمة عامة تكاد تكون مشتركة بين معظم هؤلاء الرجال البارزين، ولعلها تعود إلى الإيديولوجية الغامرة التي لفت حياتنا حقباً طويلة وعاشت في الضمير أو اللاوعي، والتي تحمل، عند قصور الوعي أو الفعل، هدهدة بالأمل أو الحلم غير المفضي إلى العمل وتأتي تعبيراً عن القصور الذاتي والكوابح والمثبطات الخارجية.

الكمال المثالي:

وهذه السمة تكتنف المفهوم الذي وقر في النفوس عن رجل الدولة، بما في ذلك نفوس أولئك الرجال البارزين، إن رجل الدولة البارز هو من يتناول الواقع بالتبديل ويمارس فاعليته فيه وهدفه الأول بناء الممكن، ويشعر بأنه مسؤول عن الحسن والسيء، أما من يعتبر نفسه صاحب رسالة علوية يرو، من خلالها، اقتسار الواقع ومحاولة «خلقه» توهماً، فهو يؤمن بالكلية الغيبية وبإمكان بلوغ الإنسان غاية الكمال المثالي دون جهد أو بغائية حتمية لا يمكن في الواقع أن تعيش إذا لم يساعدها على التحقق جهد الناس وسعيهم.

الهوس التنبؤي:

الأول يهتم بالأفكار لنفعها والثاني «لحقيقتها» المثالية. وبين الكمال المثالي الذي يتجاوز الواقع تصعيداً وتعالياً وبين مواجهة الواقع واستخلاص الوقائع أو الحقائق القابلة للتحقيق في حياة الناس بون شاسع، ومن شأن الغلو في تعظيم الدور الذي ألقاه «القدر» على عواتقهم ومن شأن استشرائه أن ملك نفوس هؤلاء الرجال البارزين ما يشبه الهوس التنبؤي فطلعوا على الناس بحلة أسطورية كأنها أفلتت من غيابه العصور أو أنها جواب التساؤل الحائر العاجز الكامن في اللاوعي.

التغيرات الاجتماعية الثورية:

أما الحلة الواقعية الموضعية فلم يكن متاحاً لها أن تتحقق ويستقيم أمرها ما لم يكن هناك سياق تطوري أو ثوري يمكن تلمسه والاهتداء به.
ولقد كان هذا السياق مغيباً أو مطموساً أو جنينياً وفي أحسن الأحوال لم يؤخذ سوى شكل بدوات بدائية.
وتبعاًَ لذلك لم تنطبق على أولئك الرجال صفة رجل الفكر العظيم، وهو الذي يهيء أذهان الناس للتغيرات الاجتماعية الثورية التي هي في طريقها إليهم أو رجل الفعل العظيم الذي ينظم النضال بين الطبقات أو الفئات الاجتماعية الموعودة بالمستقبل لتنهض وتربح قضيتها بواسطة الثورة أو أية وسيلة ملائمة أخرى.

تحقق المستحيل:

وقبالة هذه السمة المشتركة ثمة ظاهرة أخرى  تستدعي الاهتمام وهي تتعلق بكيفية استخدام الذكاء أو الإرادة، من قبل هؤلاء الرجال، في مواجهة الضرورات الداخلية والخارجية الذاتية منها والموضوعية.
إن انتصار الذكاء والإرادة ليس من شأنهما إطلاقاً انتهاك حرمة الضرورات الطبيعية والاجتماعية وليس من شأنها تجاوز ما تقتضيه مواجهتها. وانتصار الذكاء والإرادة يوفر مجهودهما الخاص لقيام بعض الأوضاع التي يستند إليها التحول، تحول ما هو «ممكن أن يكون» إلى ما هو «كائن».
وهذا ما نعنيه عندما نقول بشكل رجعي المفعول بأن المستحيل قد تحقق.

الأحلام السعيدة:

ولعل من أشد فواجع تاريخنا المعاصر إيلاماً هي الفواجع التي كان يرافقها، بجانب «الأحلام السعيدة»، الصراخ بكلمة «مستحيل» فكأن هناك جبلاً لا مزحزح له، وبسبب من قصر النظر أو الوعي البائس كانت يحشد لها من الطاقات والموارد ما يكفي للانتصار ولكن ذلك لم يكن يتم إلا بعد فوات الأوان.
وإذا كان هناك من أمر خلقي يصح في جميع الفترات التاريخية فإن هذا الأمر هو الوعي والفعل في اللحظة الحاسمة أو الملائمة حتى لا تصبح من الفرص المضاعة وما أكثرها في حياتنا.

بناء الكيان الإنساني:

إن فرص الاختيار محدودة واضحة وكل قرار باختيار ينطوي على تشييد جديد لبناء الذات (الكيان الإنساني) والمجتمع والعالم.
وإن كل تجربة رشيدة إنما هي تجربة ترشدنا فيها قوانين معروفة قبلاً وتهدف هذه التجربة إلى تحقيق السيطرة والسيادة على المشاكل الملحة.
وهذا هو الفعل التاريخي الذي يمكن أن ينظر، من خلاله، إلى دور الأفراد البارزين.


0 تعليقات:

إرسال تعليق