الإنتقال إلى المجتمع الديموقراطي في الوطن العربي.. المشاركة الشعبية في أمور السياسة وتوفر حدّ معقول من حقوق الإنسان السياسية



من المعروف أن الإنتقال إلى المجتمع الديموقراطي يتطلب وجود رافعتين هما: المشاركة الشعبية في أمور السياسة وتوفر حدّ معقول من حقوق الإنسان السياسية. والمشاركة السياسية تلك تعني مشاركة المواطنين الفعلية والفاعلة في عملية اتخاذ القرارات المجتمعية، وفي ادارة الشؤون العامة بصور مباشرة وغير مباشرة، وفي مراقبة مؤسسات تنفيذ القرارات، وفي محاسبة القائمين على تلك المؤسسات واستبدالهم بغيرهم إن لزم الأمر.
ويكاد يكون من المستحيل أن تتم المشاركة بفهم عميق وبوعي مسؤول وباستمرارية دون أن يلتحق الأفراد المواطنون بمؤسسات المجتمع المدني السياسية من مثل الأحزاب والجمعيات السياسية وشبكات الضغط الجماهيرية على المستويات الوطنية والقومية والعالمية، أو من مثل النقابات أو الجمعيات الحقوقية والمهنية.
ما يهمنا في كل ذلك الأمر هو المدخل المحوري الرئيسي للمشاركة السياسية الشعبية، ونعني به أكبر وأهم اداة المشاركة، وهي الأحزاب السياسية. فلا يقترب من أهمية وضرورة العمل الحزبي السياسي إلا الإعلام الحر النزيـــه المسؤول الملتزم. فهل الوضع الذي تعيشه الأحزاب السياسية العربية، عبر الوطن العربي كله، صالح وقادر لإدماج المواطنين في الحياة السياسية وبالتالي إيجاد التوازن المطلوب بين المجتمع والسلطات التي تحكمه؟ هذا السؤال طرحه الكثيرون ألوف المرّات، في مئات المناسبات، عبر عقود كثيرة من الزمن، لكن جوابه لم يتغير: إن الحياة الحزبية السياسية العربية في أزمة مستفحلة، في تيه فكري وتنظيمي، وبالتالي في عجز عن القيام بمهمتها الأساسية المتمثلة في تجييش الناس للمشاركة في الحياة السياسية. لماذا يوجد ويستمر هذا الوضع المحيّر؟
أولاً: دعونا نكون صريحين إلى أبعد الحدود، اذ في الغالبية السَّاحقة من الأقطار العربية التي تسمح بوجود الأحزاب لا يوجد في الحقيقة إلا حزب واحد، هو حزب السّلطة الحاكمة. هذا التوجُّه المنادي بالحزب القائد وبرئيسه الملهم هو من مخلفات شعارات منتصف القرن الماضي للحكم الشمولي، الذي باسم الطبقات العاملة أو حركات التحرير الوطنية أو الانقلابيين العسكر أو الإدّعاء بتمثيل الطليعة الثورية النضالية أصرّ على أن لا يكون في السّاحة إلا حزب طليعي قائد يهيمن على بقية الأحزاب وعلى الحياة السياسية للمجتمعات. لقد حفظت الأنظمة العربية المتعاقبة ذلك الدرس الذي يكرّس الحكم الفئوي السلطوي ولكن بأسماء جديدة من مثل الطائفة الأكبر أو الفئة الاقتصادية الأقوى والأغنى أو العائلة المقبولة من قبل الجيش ورجال الأقتصاد وسفارات هذه الدول أو تلك. النتيجة هي تهميش جميع الأحزاب الأخرى أو إقصاؤها وابتعاد المواطن العادي عن السياسة وترك السّاحة للإنتهازيين والمتسلقين والمنتفعين وحاشية السلطة.
ثانياَ: وحتى عندما تكون هناك مساحة معقولة لوجود تعددية حزبية فان الأحزاب العربية في مجملها ليست بأحزاب ديموقراطية. إنها أحزاب تسيطر عليها نخبة صغيرة، وتفتقر إلى المداولات الحرة بين جميع أعضائها قبل اتخاذ قراراتها، وتكون الانتخابات فيها صورية بحيث لا تؤدّي إلى تبادل السلطة فيها. من هنا تردُّد المواطنين عن الإنخراط في مثل هذه وبقاء أعداد أعضاء الغالبية السّاحقة من الأحزاب العربية أعداداً هزيلة وغير متواجدة في أكثر ساحات العمل المجتمعي. وهذا بحدّ ذاته يشجّع السلطات على الإستهانة بمكانة الأحزاب وبوزنها في الحياة السياسية، إذ تعلم جيداً انها دكاكين صغيرة وواجهات علاقات عامة، تجيد الكلام والصّراخ، ولكنّها مصابة بالعقم وقلّة الفاعلية.
ثالثاً: والأمر المفجع هو أن الأحزاب التي تحمل نفس الأهداف، وأحيانا ً نفس الإسم، تفضًّل أن تبقى منقسمة على نفسها، مرتبطة بهذا الشخص أو ذاك، مكتفية باصدار البيانات التي لا يقرأها أحد. إنها ترفض الاندماج وتأنف من تكوين الجبهات والتّيارات والشبكات. إنها تمارس العجز والبلاهة السياسية وتوجّه اللوم للمواطنين بدلاً من توجيهه لنفسها ولقياداتها الأنانية النّرجسية.
ضعف المشاركة الشعبية السياسية التي تعطي الفرصة لسلطة الحكم العربية لتمسك برقبة مجتمعاتها ولتنهب ثرواتها ولتبقى في الحكم حتى لحظة الانتقال الى القبور، هذا الضعف ليس سببه الحكم الاستبدادي الفاسد الظالم فقط، وإنما أيضاً بسبب قوى المجتمع المدني السياسية، وعلى الأخص قوى الأحزاب، التي خذلت المواطن العربي المرة تلو المرّة، وذلك باصرارها على ممارسة الفردانية والتمزّق والاستبداد والاستكانة العاجزة والبكائيات الطفولية ولوم الآخرين.
هل يمكن إنعاش الحياة في دولة مستبدّة ومجتمع عاجز؟


ليست هناك تعليقات