مسرحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم.. الإبداع الفني بين الرؤية الدينية والتأثير التاريخي. الصراع مع الزمن وتحقق المعجزة والعودة إلى الحياة



مسرحية "أهل الكهف" لتوفيق الحكيم:

يقول توفيق الحكيم أن ما فعله هو مجرد تحوير فني للآيات القرآنية.
وهذا صحيح من حيث هيكل الأحداث والشخصيات، وهو يأخذ بالرأي القائل بأن أهل الكهف قد مكثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً"، وإن تكن المصادر المسيحية تقول إنهم قد مكثوا مائتي سنة فحسب وهي الفترة التي انتصرت خلالها المسيحية على الوثنية وأصبحت الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية الشرقية.

مشيلينيا، مرنوش، الراعي يمليخا، قطمير:

أما من حيث الأشخاص وعددهم فقد اكتفى توفيق الحكيم بثلاث شخصيات وردت أسماؤهم في تفسير النسفي وهم مشيلينيا ومرنوش وزيرا دقيانوس ثم الراعي يمليخا وكلبه قطمير، وأضاف إليهم الفتاة بريسكا ومربيها غالياس.
وأما يودوسيوس فلم يذكر الحكيم اسمه مكتفيا بتسمية الملك وهذه كل شخصيات المسرحية.
إذن فقد اعتمد اعتمادا أساسيا على القرآن وكتب المفسرين.

فكرة البعث كمعجزة سماوية:

وفكرة البعث ليست المضمون الأساسي لهذه المسرحية بل تحمل مضمونا جديدا أوسع وأغنى من فكرة الزمن المجردة وصراع الإنسان ضدّه أو فكرة البعث في ذاتها كمعجزة سماوية.
كما أنها تحدد رأي الحكيم في صراع الإنسان من أجل الحياة وضد الفناء، وهذا الرأي التزمه الحكيم في المسرحيات التالية التي تعرض نفس الرأي من خلال أحداث أخرى.

لا فائدة من نزال الزمن:

وقد أجرى الحكيم هذا الرأي على لسان مرنوش ومن خلال تجربته حيث يقول لمشلينيا بعد أن عادوا إلى الكهف في الفصل الأخير: "لا فائدة من نزال الزمن... لقد أرادت مصر من قبل محاربة الزمن بالشباب، فلم يكن في مصر تمثال واحد يمثل الهرم والشيخوخة كما قال لي قائد جند عاد من مصر، كل صورة فيها هي للشباب من آلهة ورجال وحيوان... كل شيء شباب... ولكن الزمن قتل مصر وهي شابة وما تزال ولن تزال...ولن يزال الزمن ينزل بها الموت كلما شاء وكلما كُتب عليها أن تموت."

الحياة المطلقة المجردة:

وأما لماذا ييأس مرنوش من نزال الزمن وبخاصة بعد أن تحققت المعجزة فعاد هو ورفاقه إلى الحياة، فإننا نستطيع أن نجد الجواب على هذا السؤال الهام في المسرحية نفسها على لسان مرنوش أيضاً بعد أن خرج من الكهف باحثاً عن بيته وزوجته وولده الذي كان قد أعدّ له هدية فلم يجد بيتا ولا زوجا ولا ولداً وإنما وجد سوقا للسلاح يقوم مكان بيته وقد مات ولده بل وأحفاده، فيئس من الحياة وغشي الحزن روحه فقال: "إن الحياة المطلقة المجردة عن كل ماضٍ وعن كل صلة وعن كل سبب هي أقل من العدم بل ليس هناك قط عدم، ما العدم إلا حياة مطلقة".

اتهام فلسفة الحكيم بالسلبية والانهزامية:

وهذه هي فلسفة الحكيم في هذه المسرحية وعليها تقوم المسرحية كلها.
فالزمن عند الحكيم ليس شيئاً مجردا بل هو محتوياته، والحياة ليست جوهراً في ذاته بل هي مجموعة الروابط التي تربط الإنسان بهذه الحياة، فإذا انقطعت تلك الروابط ذبلت الحياة فينا وماتت وأصبحت عدماً.
وكل هذا حق ولكن موضع الضعف في هذه الفلسفة هو أن الحكيم لا يؤمن بقدرة الإنسان على خلق هذه الروابط من جديد إذا تقطّعت، وهذا هو سبب اتهام فلسفته بالسلبية بل بالانهزامية.

رابطة الحب:

ومن الغريب أن نلاحظ أن الحكيم قد وضع إحدى شخصيات أهل الكهف في وضع يمكنه من تجديد أقوى رابطة له بالحياة وهي رابطة الحب، ولكننا نلاحظ أنه بعد أن كادت المحاولة تنجح، وقفها المؤلف لكي يعود مشيلينيا صاحب هذه المحاولة إلى الكهف أي إلى الموت، وفي أعقابه الفتاة بريسكا نفسها، وهي حفيدة خطيبته القديمة بريسكا وقد اختلطت الفتاتان في نفس مشيلينيا ودام اللبس زمناً طويلاً إلا أنه تبدد في النهاية واستطاع مشيليتيا أن يحمل بريسكا الجديدة على حبّه. بل ووجد فيها من مزايا الجمال والحكمة والذكاء واتساع الأفق أكثر مما كانت تملك خطيبته القديمة التي كانت تحمل نفس الاسم.وكان من الممكن أن يمد الحكيم في عمر مشلينيا الجديد وحبيبته الجديدة بريسكا بعد أن شدّهما الحب إلى الحياة.ولكن الحكيم أبى إلا أن يطبق فلسفته على طول الخط، فعاد بهما إلى الكهف وإن كان مشيلينيا آخر من عاد إلى الكهف من أهل الرقيم.

روابط الشخصيات بالحياة:

وأما عن تنويع الحكيم للروابط التي كانت تربط كلاًّ من الشخصيات الثلاثة بالحياة وتنويع النتائج التي تترتب على اختلاف هذه الروابط، فقد أظهر المؤلف في كل ذلك مهارة واضحة.
فيمليخا لا يربطه بالحياة غير قطيع غنمه الذي تركه يرعى الكلأ ويحرص على أن يسرع بالعودة إليه، ثم كلبه الذي صحبه إلى الكهف ليرقد بالوصيد أي الباب.

المال هو أهون الروابط:

والحكيم يرى بحق أن المال هو أهون الروابط بحكم أنه غادٍ ورائح وإن يكن الحكيم لم يرتب على هذه الحقيقة نتيجتها المنطقية عندما نراه يجعل يمليخا أسرع الجميع يأساً من الحياة وعودة إلى الكهف بمجرد أن تيقن من أن قطيع غنمه قد أهلكته السنون، وكنا نتوقع أن يهون عليه الأمر وأن يحاول تعويض ما فقده.
وأما مرنوش فقد كان يربطه بالحياة بيت وزوجة وولد، كان قد أعدّ له هدية، ولكن تهديد دقيانوس أعجله عن حمل الهدية إلى ولده فتأبطها إلى الكهف.

الارتباط من جديد بالحياة:

وكان مرنوش ثاني من عاد إلى الكهف بعد أن تحقق من زوال بيته وفناء بيته وزوجه وولده بل وأحفاده، فكان يأسه سريعا مطبقاً.
وأما الشخصية الطريفة التي غمرت حياتها السريعة الجديدة بشيء من الحركة والأمل ومحاولة الارتباط من جديد بالحياة فهي شخصية مشلينيا الذي وجد في قصر الملك الجديد فتاة تحمل اسم خطيبته القديمة ابنة دقيانوس الوثني التي كانت قد تلقت المسيحية عن مشلينيا وأحبته وعاهدته على الزواج، فخيل إليه أنه أمام خطيبته التي تشبه بريسكا الجديدة في ظاهر شكلها، وإن اختلفت عنها في ملكاتها النفسية.

انبثاق الحب في القلب:

وقد تفنن الحكيم في تبرير هذا اللبس بنسخة من الكتاب المقدس وخاتم كان قد أهداهما مشيليتيا لخطيبته.
والحوار الذي يجري على أساس هذا اللبس بين مشلينيا وبريسكا الجديدة وانكشاف هذا اللبس شيئا فشيئا، ثم انبثاق الحب في قلب الطرفين شيئا فشيئا يعتبر من أروع ما كتب الحكيم من حوار، وإن كنا لا ندري لماذا عاد الحكيم ثانية بمشلينيا إلى كهفه رغم تجدد أقوى صلة تربطه بالحياة وهي صلة الحب. بل وجعل بريسكا الجديدة تلحق به في الكهف، وإن يكن مشلينيا قد كان بالضرورة آخر من عاد إلى الموت باعتبار الأمل في الحب قد أمسكه بعض الوقت في رحاب حياته الجديدة.