الوضعية-المشكلة في التعليم الحديث: تعريفها، مكوناتها الأساسية، ودورها في تنمية التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات لدى المتعلمين

الوضعية-المشكلة: مقاربة تعليمية لتنمية التفكير النقدي وحل المشكلات

تُعدّ الوضعية-المشكلة (Problem-Situation) مقاربة تعليمية ديداكتيكية حديثة تهدف إلى إشراك المتعلم في عملية تعلم نشطة وذات معنى، من خلال مواجهة تحديات حقيقية أو محاكاة لمواقف واقعية تتطلب التفكير العميق والتحليل للوصول إلى حلول مبتكرة. هي ليست مجرد مشكلة يجب حلها، بل هي سياق تعليمي متكامل يضع المتعلم في قلب عملية التعلم، ويحفزه على بناء معارفه ومهاراته الخاصة. يمثل هذا المفهوم نقلة نوعية في الطرائق البيداغوجية، متجاوزًا النماذج التقليدية التي تركز على التلقين، ليفتح المجال أمام تنمية مهارات التفكير العليا كالتفكير النقدي، وحل المشكلات، واتخاذ القرار.

تعريف الوضعية-المشكلة: سياق يولد التحدي والتعلم

في جوهرها، الوضعية-المشكلة هي حالة أو موقف محدد يقدم للمتعلم، ويحمل في طياته تحديًا أو معضلة تتطلب تدخلًا لحلها. هذه المواقف يمكن أن تتخذ أشكالًا متنوعة وتتراوح في تعقيدها، بدءًا من التحديات الفردية البسيطة وصولًا إلى القضايا المجتمعية المعقدة. قد تنتمي إلى سياقات مختلفة مثل:
  • الوضع الصحي: مثال: تصميم حملة توعية صحية لمكافحة ظاهرة معينة.
  • الوضع الاقتصادي: مثال: اقتراح حلول لمشكلة البطالة في مجتمع معين.
  • الوضع الاجتماعي: مثال: وضع خطة لتعزيز التسامح والتعايش بين الثقافات المختلفة.
  • الوضع البيئي: مثال: ابتكار طرق مستدامة لتقليل التلوث في مدينة معينة.
  • الوضع المهني: مثال: تطوير استراتيجية تسويقية لمنتج جديد في شركة.
تُقدم هذه الوضعيات المتعلم كفاعل أساسي يواجه تحديًا غير تقليدي، مما يستدعي منه تفعيل مهاراته العقلية والمعرفية. لا يقتصر حل المشكلة هنا على إيجاد إجابة واحدة صحيحة، بل يشمل عملية متكاملة من التحليل، التقييم، التواصل، والتعاون. قد يتطلب الأمر تحديد أهداف واضحة، تطوير استراتيجيات متعددة، وتنفيذ إجراءات عملية لتحقيق تلك الأهداف. في بعض الحالات، قد يتجاوز الحل مجرد معالجة المشكلة ليطال تغيير الوضعية نفسها إذا كانت هي جزءًا من المعضلة الأساسية. الهدف النهائي دائمًا هو تحقيق تحسين أو تطوير للحالة الراهنة والوصول إلى النتائج المرجوة، مما يعكس تعلمًا عميقًا وتطبيقًا عمليًا للمعرفة.

المكونات الأساسية للوضعية-المشكلة: هيكل التعلم الموجه

لكي تؤدي الوضعية-المشكلة دورها التعليمي بفاعلية، يجب أن تتكون من عناصر أساسية تعمل بتناغم لتقديم تحدٍ تعليمي متكامل:

1. السند (Support):

  • هو العنصر المادي أو المعلوماتي الذي يُقدم للمتعلم عند عرض الوضعية.
  • يمكن أن يتضمن معلومات أولية، نصوصًا، صورًا، رسومات بيانية، خرائط، جداول بيانات، أدوات، أو مواد حسية أخرى ذات صلة بالمشكلة.
  • قد يكون السند حقيقيًا مستمدًا من الواقع (مثل تقرير إخباري، دراسة حالة)، أو افتراضيًا مصممًا خصيصًا لأغراض تعليمية (مثل سيناريو محاكاة).
  • وظيفته تزويد المتعلم بالخلفية اللازمة والمعطيات الأولية التي ينطلق منها في عملية الحل.

2. الوظيفة (Function/Task):

  • هي الهدف أو الغاية الرئيسية من حل الوضعية-المشكلة.
  • تحدد بوضوح ما هو مطلوب من المتعلم تحقيقه أو إنتاجه كنتيجة لعمله على الوضعية.
  • يمكن أن تكون الوظيفة معرفية (مثل تحليل مفهوم، تفسير ظاهرة)، مهارية (مثل تصميم أداة، كتابة تقرير)، أو سلوكية (مثل اتخاذ قرار، المشاركة في نقاش).
  • يجب أن تكون الوظيفة واضحة وقابلة للقياس لتحفيز المتعلم وتوجيه جهوده.

3. السياق (Context):

  • هو الإطار العام الذي تُقدم فيه الوضعية، ويمنحها المعنى والأهمية.
  • يتضمن المعلومات المحيطة، الظروف، الزمان، والمكان الذي تدور فيه المشكلة.
  • يُساعد السياق المتعلم على فهم الوضعية بشكل أفضل وربطها بالواقع، مما يزيد من دافعيته للمشاركة.
  • مثال: وضعية مشكلة عن التلوث في سياق "مدينة مراكش في عام 2024".

4. المعطيات (Data):

  • هي المعلومات المحددة التي يقدمها السند للمتعلم، وتُعتبر المدخلات الأولية للحل.
  • يمكن أن تكون المعطيات واضحة ومباشرة، أو مشوشة تتطلب تحليلًا وتمحيصًا لاستخلاص المعلومات ذات الصلة.
  • يتطلب من المتعلم تحليل هذه المعطيات، تصنيفها، وربطها ببعضها البعض لاستخدامها بفعالية في عملية الحل.

5. المجهول (Unknown):

  • هو العنصر الذي يفتقر إليه المتعلم ويجب عليه إيجاده أو اكتشافه كجزء من الحل.
  • يمكن أن يكون المجهول معرفيًا (مثل حل معادلة، تحديد سبب)، مهاريًا (مثل إيجاد طريقة لتركيب شيء)، أو سلوكيًا (مثل اتخاذ قرار بشأن إجراء معين).
  • للوصول إلى المجهول، يحتاج المتعلم إلى استخدام المعطيات المتاحة، تطبيق المهارات المكتسبة، وتفعيل التفكير النقدي والإبداعي.

6. الموانع (Obstacles):

  • هي العقبات أو الصعوبات التي تواجه المتعلم خلال محاولته لحل الوضعية.
  • يمكن أن تكون الموانع معرفية (مثل نقص في المعلومات أو الفهم)، مهارية (مثل عدم إتقان أداة معينة)، أو سلوكية (مثل صعوبات في العمل الجماعي).
  • تكمن قيمة هذه الموانع في أنها تدفع المتعلم إلى التفكير خارج الصندوق، البحث عن حلول بديلة، وتجاوز التحديات باستخدام معرفته ومهاراته.

7. القيود (Constraints):

  • هي الشروط أو الحدود التي تُفرض على عملية الحل أو على الناتج النهائي.
  • يمكن أن تكون القيود زمنية (مثل وقت محدد للحل)، مادية (مثل ميزانية محددة)، أو بشرية (مثل عدد محدود من الأعضاء في الفريق).
  • يتوجب على المتعلم العمل ضمن هذه القيود، مما ينمي لديه مهارات إدارة الموارد والتخطيط الفعال.

8. الحل (Solution):

  • هو الاستجابة أو الإجابة على السؤال المطروح في الوضعية، أو تحقيق الهدف المحدد لها.
  • يمكن أن يتخذ الحل أشكالًا متنوعة، سواء كان معرفيًا (مثل مقال تحليلي، تقرير بحثي)، مهاريًا (مثل منتج مادي، عرض تقديمي)، أو سلوكيًا (مثل خطة عمل، نموذج محاكاة).
  • يجب أن يكون الحل مقنعًا ومنطقيًا، ويعكس فهم المتعلم العميق للوضعية، واستخدامه الفعال للمعلومات، المهارات، والتفكير النقدي.

9. التقييم (Evaluation):

  • هي عملية تقدير قدرة المتعلم على حل الوضعية بفاعلية وجودة.
  • يعتمد التقييم على معايير محددة مسبقًا وواضحة للمتعلم، مثل جودة الحل، مدى الالتزام بالقيود، استخدام المعطيات، وعمق التفكير.
  • يُساعد التقييم المتعلم على فهم نقاط قوته وضعفه في مقاربة المشكلات، وتحديد المجالات التي تحتاج إلى تطوير.

10. التعلم (Learning):

  • هو الهدف النهائي والأسمى من تطبيق مقاربة الوضعية-المشكلة.
  • من خلال خوض غمار حل الوضعيات، يكتسب المتعلم معارف جديدة، ينمي مهارات التفكير النقدي، يعزز قدرته على حل المشكلات المعقدة، ويطور مهارات اتخاذ القرار.
  • لا يقتصر التعلم على المحتوى المعرفي، بل يمتد ليشمل المهارات ما وراء المعرفية (metacognitive skills) كالتخطيط، المراقبة الذاتية، وتقييم الأداء.

الخلاصة: الوضعية-المشكلة كحجر زاوية في التعليم الحديث

تُعدّ الوضعية-المشكلة بحق أداة تعليمية بيداغوجية قوية وفعالة، لا تكتفي بتقديم المعرفة للمتعلم، بل تدفعه ليصبح بانيًا ومُنتجًا للمعرفة. من خلال هذه المقاربة، يتحول المتعلم من متلقٍ سلبي إلى مشارك نشط يواجه تحديات حقيقية، مما يمكنه من تطوير مهارات أساسية لا غنى عنها في عالم اليوم، مثل التفكير النقدي، حل المشكلات المعقدة، اتخاذ القرارات المستنيرة، والعمل التعاوني. إنها مقاربة تعزز الفهم العميق، وتغرس شغف البحث والابتكار، وتعدّ المتعلمين لمواجهة تعقيدات الحياة والنجاح فيها.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال