اتجاهات الساحة الإسلامية في موقفها من إشكالية توثيق الزواج من عدمه في بلديات الدول الغربية:
1) الاتجاه المتشدد:
الذي يعتبر توثيق وتسجيل عقد الزواج لدى السلطات الرسمية للدولة غير ضروري، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمسلمون من بعدهم لم يكونوا يوثقون عقود زواجهم، بل كانوا يكتفون بإجرائه مشافهة مع حضور الولي والشهود وجماعة من المسلمين.
وتسجيله لدى السلطة ليس ركن من أركانه ولا شرط من شروطه، وعلى هذا فإن إبرام العقد وتسجيله في المحاكم وبلديات الدول الغربية مخالف للشريعة الإسلامية، فلا يجوز للمسلم الاحتكام إلى نظام وقانون وضعي.
وهذا الكلام غير سليم فالتوثيق مشروع بالكتاب والسنة وعمل الصحابة والمسلمين من بعدهم.
وقد أشار القرآن إلى ذلك ضمنيا، وأمر بكتابة الدين ويقاس عليه بقية العقود ومنها عقد الزواج.
وإن الأوائل لم يهتموا بتوثيق عقود الزواج بالكتابة نظرا لوجود الإيمان والأمان والاستقامة والأخلاق الفاضلة، ولكنهم كانوا يوثقونه بالشهادة، ولما تغيرت أحوال الناس وأخلاقهم وبدؤوا يتزوجون على مقدم ومؤخر الصداق دعت الحاجة إلى توثيقه.
أما في عصرنا فقد فقدت الشهادة في عقد الزواج قيمتها الشرعية لفساد الذمم، وشيوع الكذب وشهادة الزور، والعوارض التي قد تحدث للناس، فأصبح التوثيق واجب شرعي يأثم تاركه، وواجب قانوني يعاقب على مخالفته.
أما القول بمخالفته للشريعة الإسلامية، فعلينا أولا أن لانطلق الأحكام قبل تصور المسألة ودراستها من جميع الجوانب، والمقارنة بين أركان وشروط العقدين الشرعي والقانوني، وبالنظر إلى النتائج والمفاسد التي تترتب على عدم تسجيل العقد، والضرر الذي قد يقع على المرأة والأولاد.
أما القول بعدم جواز الاحتكام إلى نظام غير شرعي، فنقول أن إجراء عقد الزواج في البلدية إذا توفر فيه الرضا المعبر عنه عند الفقهاء بالإيجاب والقبول أو الصيغة، وعدم الإكراه وشهادة مسلمين وحضور الولي، وتحقق فيه الإعلان والإظهار، وانتفت فيه الموانع الشرعية، واتفق فيه الزوجان على الصداق، كان زواجا صحيحا وترتبت عليه جميع الآثار.
وهذه الشروط والأركان متوفرة في إجراءات الزواج في البلدية، لأن بعضها يطلبها القانون وبعضها لا يطلبها، لكنه لا يمنع من اتفاق الطرفين عليها فيما بينهما (كالاتفاق على الصداق وحضور الولي وتضمين شرط التحكيم والرجوع إلى الشريعة الإسلامية فيما يخص آثار وأحكام الزواج).
وضابط الحالة المدنية مهمته التحقق من الأوراق المطلوبة، وموافقة الإجراءات للشكل القانوني للزواج، ثم تسجيله. فالمسلم عندما يلتزم بقانون سير السيارات أو قانون البيع والشراء، أو الالتزام بقانون الإدارة عندما يريد استخراج أوراق ضرورية (كبطاقة الإقامة، جواز السفر، بطاقة الهوية).
فهل معنى هذا أن المسلم أحتكم إلى غير الشريعة الإسلامية؟
فإبرام الزواج في البلدية ضرورة وحاجة يقتضيها العصر وظروف المسلمين في الغرب.
قال إمام الحرمين: "بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر"([1]) فالدول غير الإسلامية لا تعترف بالزواج غير المسجل في البلدية، ولا يترتب عليه أي آثر من آثار الزواج، ولا يمكن الحصول على شهادة الميلاد، والتي بواسطتها يسجل الأولاد في المدرسة، والحصول على الحقوق المادية والقانونية إلا إذا كان الزواج ثابتا بوثيقة رسمية.
قال أبو المعالي الجويني في المناكحات: "فإن نعلم أنها لا بد منها، فإن بها بقاء النوع، كما بالأقوات بقاء النفوس، والنكاح هو المغنى عن السفاح)([2]) وعلى هذا فلا يمكن أن نطلب من المسلمين عدم الزواج بحجة أن نظام إجراءات الزواج مخالف للشريعة الإسلامية.
2) الاتجاه الذي يدعو إلى ضرورة التوثيق:
لكنه يعتبر العقد القانوني لا يحل المعاشرة بين الرجل والمرأة وإذا تم الدخول قبل إعادة إجرائه في المسجد أو المركز الإسلامي لتصحيحه يعتبر زنا محرم لتخلف بعض الأركان والشروط.
جاء في أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب للدكتور سالم بن عبد الغنى الرافعي: (تحت عنوان حكم الزواج المدني في الغرب) وبعد أن ذكر شبهات العقد المدني في نظره"الصيغة الاستفهامية، شبهة الولي، شبهة الشهود، شبهة المهر، شبهة الزواج المدني" وبعد أن ناقش هذه الشبهات في نظره توصل إلى: "إن عقد الرجل على المرأة عقدا مدنيا ودخل بها دون عقد شرعي ففعله حرام يجب عليه المبادرة إلى إجراء عقد شرعي يستحل به الدخول"([3]).
لقد تم مناقشة هذه الشبهات التي ذكرها الدكتور وتبين بعدها أن الزواج القانوني صحيح بالضوابط التي ذكرتها لكن ننصح المسلم بإعادته في المسجد أو المركز الإسلامي.
وجاء في كتاب فقه الأسرة المسلمة في المهاجر/نوازل العقد وبعد المقارنة بين العقد الشرعي والعقد القانوني توصل إلى الشروط الغائبة في العقد القانوني منها (الولي، المهر، انتفاء الإسلام والعدالة في الشهود)قال: "بناء على انخرام هذه المجموعة من الأركان والشروط في العقد المدني الذي يتم ويوثق لدى ضابط الحالة المدنية. فإنه لا يعتبر عقدا شرعيا تحل به المعاشرة الزوجية، أو تلزم منه الآثار الناتجة عن عقد الزواج، من حل المعاشرة، ولحوق الولد، ووجوب النفقة، وثبوت الميراث وإن كانت ثابتة من الناحية القانونية"([4]).
"ويعتبر الرجل الذي يعاشر زوجته وفق العقد القانوني علاقة زنا وممنوعة شرعا، لفقدها أركان العقد الشرعي وشروطه، لكن يمكن أن يصحح هذا الخطأ بإكمال الشروط والأركان في المسجد، أو المركز الإسلامي، أو ممثليه أي بلد مسلم، وإذا تم الدخول يجب عليه مفارقة المرأة حتى تستبرأ رحمها من ذلك الزنا مع التوبة"([5]).
الظاهر أن كلام الباحث غير سليم للأسباب التالية:
1- لأن الولي فيه خلاف معتبر يسوغ فيه الإجهاد والحنفية يقولون بصحة الزواج بدونه بشرط أن يكون بكفء وبمهر المثل، أن على رضي الله عنه وبعض المالكية يقولون بصحة الزواج إذا وقع بدون ولى وتم الدخول بالمرأة،
2- أن الزواج بدون تسمية الصداق جائز شرعا ( نكاح التفويض)
3- أن الإعلان والإظهار عند العقد في البلدية ينوب عن الشهادة “لأنها مستحبة عند العقد واجبة عند الدخول في المذهب المالكي " والقانون لا يمنع من شهادة مسلمين، وحضور الولي والاتفاق على الصداق
4- أما العدالة فيكتفي فيها بمستور الحال عند بعض الفقهاء للحاجة ولتغير أحوال الناس وفساد الذمم
5- أن النسب ثابت بالفراش والإقرار ولو كان الزواج فاسدا
3) الاتجاه الذي يعتبر العقد القانوني عقدا صحيحا:
ولو لم تتوفر فيه الأركان والشروط الشرعية ولم تنتف فيه الموانع المطلوبة شرعا، تحل به المعاشرة الزوجية بين الرجل والمرأة ولا داعي إلى إعادته في المسجد أو المركز الإسلامي، لأن القانون لا يعترف إلا بهذا النوع من الزواج، وأن على المسلمين في الدول الغربية الخضوع إلى قوانين هذه البلدان ما داموا أنهم رضوا أن يحملوا جنسية هذا البلد أو الإقامة فيه.
والحقيقة أن الذين يحملون لواء هذه الدعوة هم جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة الذين يريدون تجريد الزواج من الصبغة الدينية، ويقصدون بذلك المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، إلغاء قوامة الرجل، سلب الطلاق من يد الرجل وغيرها من الآراء المشبوهة، وبذلك تتمكن المرأة المسلمة بالزواج بغير المسلم لتحقيق مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة.
وهى دعوة باطلة لأن نظام الزواج في الشريعة الإسلامية مند التفكير فيه إلى كيفية إنشائه ووضع أركانه وشروطه والآثار المترتبة عليه حددها الشارع الحكيم، وأن الشريعة الإسلامية كرمت المرأة بنتا وأختا، وكرمتها أما وزوجة، وأعطتها حق الحياة وحرية اختيار زوجها، وحرية التصرف في مالها بدون تدخل الزوج أو الولي.
4) الاتجاه الذي يرى ضرورة التحذير من إجراء العقد الشرعي قبل العقد القانوني:
نظرا للمفاسد المترتبة على عدم التسجيل، وضياع الحقوق ووقوع الضرر على المرأة والأولاد، في حالة الطلاق قبل العقد القانوني، وأن هذا العقد ليس له معنى ولا قيمة قانونية، فالقانون لا يعترف به ولا يرتب عليه أي أثر من آثاره، وسد الباب أمام المتلاعبين بهذه الرابطة المقدسة والميثاق الغليظ، إذ أصبح بعض الشباب يتزوج المرأة أسبوع أو أسبوعين ثم يطلقها، فلا يترتب عليه أي التزامات أو مسؤولية أخلاقية أو قانونية، وأن هذا الشكل من العقود مخالف للشريعة الإسلامية، التي أوجبت في عصرنا تسجيل العقود بالكتابة ومنها عقد الزواج، للاحتياط وخوفا من الجحود والإنكار، وحفظا للحقوق من الضياع، وأن القانون يعاقب على هذه الأنواع من العقود.
5) الاتجاه الذي يرى ضرورة الجمع بين العقد الشرعي والعقد القانوني:
ولكن هل يتم العقد الشرعي فبل العقد القانوني؟
أم يتم العقد المدني أولا في البلدية وفى نفس اليوم يبرم العقد الشرعي في المسجد أو البيت؟
وهنا لا بد من التفصيل:
1- الأصل أن المسلمين المقيمين في الدول الغربية أن تتم إجراءات عقود زواجهم في بلدهم الأصلي، إذا كان القانون يسمح بذلك، والدولة المضيفة تعترف بهذه العقود.
2- إذا كان القانون لا يسمح بإجراء هذه العقود في البلد الأصلي، أو أن الدول الغربية لا تعترف بهذه الزيجات، فالأولى اللجوء إلى سفارات وقنصليات بلد المقيم لإجرائها ثم تسجيلها في البلدية أو المحكمة، إذا كان قانون البلد يسمح بذلك.
3- توجد دول غير إسلامية في الغرب تسمح بإجراء العقد الشرعي وتعطى تصاريح للائمة والمساجد والمراكز الإسلامية لإجراء عقود زواج المسلمين، ثم تسجيلها في المحكمة أو البلدية، وعلى هذا يجب على المسلمين في الغرب السعي من أجل أن تعترف الدول الغربية في حقهم في إجراء مراسيم زواجهم في المساجد والمراكز الإسلامية، ثم إعادة تسجيلها في الدوائر الحكومية لإصباغها الصبغة الرسمية والقانونية.
4- أما المواطنون المسلمون من أهل هذه البلاد والمقيمون الذين لا تسمح لهم القوانين بإجراء العقود خارج الإطار الرسمي للدولة، فليس لهم إلا إجرائها وفق الشكل القانوني، ثم إعادتها في المسجد أو المركز الإسلامي، وبذلك يحفظون حقوقهم من الجحود والإنكار، ويطمئنون على سلامة وصحة المعاشرة الزوجية.
والحقيقة أن هناك أسئلة تبقى مطروحة كإشكالية.
ما هي العلاقة بين انعقاد العقد وبين صحته ونفاذه؟
كيف نفرق بين الحكم الشرعي للعقد وما يتبعه من الحكم بالإثم والحرمة مع التصحيح؟
أو الحكم بانعقاده مع فساده؟
وهل إذا استوفى العقد الأركان والشروط نحكم بصحته رغم كونه لا يحقق المقاصد الشرعية من الزواج؟
والسؤال الذي يطرحه كثير من المسلمين في الغرب، ما حكم لجوء المسلم إلى هيئة غير إسلامية في الأحوال الشخصية وخاصة فيما يتعلق بإجراء مراسيم الزواج في الغرب؟
وما مدى الاعتداد بالزواج المدني والقانوني الذي تجريه المحاكم والبلديات في الغرب بالنسبة للمسلمين؟
وما هو موقف العلماء والمجامع الفقهية من ذلك؟
[1] غياث الأمم في التياث الظلم لإمام الحرمين أبى المعالي الجويني ص345.
[2] المرجع السابق الصفحة369.
[3] أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في الغرب الدكتور سالم بن عبد الغنى الرافعىص399/407.
[4] فقه الأسرة المسلمة في المهاجر الدكتور محمد الكدى العمراني ج1/374.
[5] المرجع السابق ج1/ص374/375.
التسميات
توثيق الزواج