من البصرة إلى بغداد ثم إلى عصبة الأمم: أسباب ومراحل الاحتلال البريطاني للعراق من الغزو العسكري إلى الاستقلال الشكلي وتأثيراته على نشأة الدولة العراقية الحديثة

أسباب الاحتلال البريطاني للعراق ومراحله:

يمثل الاحتلال البريطاني للعراق نقطة تحول محورية في تاريخ البلاد الحديث، حيث أنهى حقبة الحكم العثماني وبدأ فصلًا جديدًا من النفوذ الأجنبي. لم يكن هذا الاحتلال وليد لحظة، بل كان نتيجة لتراكم عوامل استراتيجية واقتصادية وسياسية دفعت بريطانيا، في خضم الحرب العالمية الأولى وما تلاها، إلى بسط سيطرتها على أرض الرافدين. يستعرض هذا الموضوع الأسباب الكامنة وراء هذا الاحتلال ومراحله المختلفة التي شكلت مسار العراق لعقود لاحقة.

أسباب الاحتلال البريطاني للعراق:

تضافرت عدة عوامل دفعت بريطانيا إلى احتلال العراق خلال الحرب العالمية الأولى، ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1. الأهمية الاستراتيجية:

  • موقع العراق كهمزة وصل: كان العراق يمثل نقطة عبور حيوية تربط الشرق بالغرب، مما جعله ذا أهمية استراتيجية كبيرة لبريطانيا التي كانت تسعى لتأمين طرق مواصلاتها إلى الهند، جوهرة مستعمراتها.
  • السيطرة على الخليج العربي: خشيت بريطانيا من تنامي النفوذ الألماني والعثماني في منطقة الخليج، وسعت إلى بسط سيطرتها لضمان أمن مصالحها ونفطها المحتمل في المنطقة.
  • إضعاف الدولة العثمانية: كان العراق جزءًا من الدولة العثمانية المتحالفة مع ألمانيا في الحرب العالمية الأولى. احتلال العراق كان يهدف إلى إضعاف العثمانيين وفتح جبهة جديدة ضدهم.

2. المصالح الاقتصادية:

  • النفط: بدأت تلوح في الأفق احتمالات وجود احتياطات نفطية كبيرة في العراق، وهو ما أثار اهتمام بريطانيا المتزايد بمصادر الطاقة لتلبية احتياجات صناعتها المتنامية وأسطولها البحري.
  • خصوبة الأراضي والموارد الأولية: كان العراق يتمتع بأراض زراعية خصبة وموارد أولية وفيرة، وكانت بريطانيا بحاجة إلى هذه الموارد لتلبية احتياجات مصانعها.
  • الأسواق التجارية: كان العراق يمثل سوقًا واعدة للمنتجات البريطانية.

3. الاعتبارات السياسية:

  • الحفاظ على مكانة بريطانيا الدولية: كانت بريطانيا تسعى للحفاظ على مكانتها كقوة عظمى في العالم، والتوسع في مناطق النفوذ كان جزءًا من هذه الاستراتيجية.
  • الوعد بإنشاء دولة عربية: خلال الحرب، وعدت بريطانيا العرب بإنشاء دولة عربية موحدة مقابل دعمهم لها ضد الدولة العثمانية. احتلال العراق كان يتماشى ظاهريًا مع هذا الوعد، وإن كانت النوايا البريطانية الحقيقية تتجه نحو فرض سيطرتها.
  • التنافس الاستعماري: كانت بريطانيا في حالة تنافس استعماري مع قوى أوروبية أخرى مثل فرنسا وألمانيا، وكانت تسعى لضمان حصتها من مناطق النفوذ في الشرق الأوسط.

4. ضعف الدولة العثمانية:

  • كانت الدولة العثمانية تعاني من ضعف داخلي وتدهور إداري وعسكري، مما شجع بريطانيا على استغلال هذه الظروف لتنفيذ مخططاتها في المنطقة.

مراحل الاحتلال البريطاني للعراق:

مر الاحتلال البريطاني للعراق بعدة مراحل يمكن تحديدها على النحو التالي:

1. مرحلة الغزو العسكري (1914-1918):

  • بدأ الاحتلال مع نزول القوات البريطانية في البصرة في نوفمبر 1914، بهدف حماية المصالح البريطانية في الخليج وتأمين إمدادات النفط.
  • شهدت هذه المرحلة معارك عنيفة بين القوات البريطانية والعثمانية، مثل معركة الكوت التي تكبدت فيها بريطانيا خسائر فادحة قبل أن تتمكن من تحقيق النصر في النهاية.
  • سقوط بغداد في مارس 1917 كان نقطة تحول حاسمة، حيث أنهى الوجود العثماني الفعلي في معظم أنحاء العراق.
  • استمرت العمليات العسكرية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في نوفمبر 1918، حيث كانت القوات البريطانية قد سيطرت على معظم الأراضي العراقية.

2. مرحلة الإدارة العسكرية المؤقتة (1918-1920):

  • بعد الحرب، أقامت بريطانيا إدارة عسكرية على العراق، عملت على تنظيم الأمور الإدارية والاقتصادية والأمنية.
  • شهدت هذه الفترة تنامي الشعور الوطني العراقي وظهور حركات تطالب بالاستقلال وإنهاء الاحتلال.
  • قامت الإدارة البريطانية بتعيين بيرسي كوكس كحاكم مدني للعراق، وبدأت في تطبيق سياسات تهدف إلى دمج العراق تدريجيًا في نظام النفوذ البريطاني.

3. مرحلة الانتداب البريطاني (1920-1932):

  • بموجب مؤتمر سان ريمو في عام 1920، تم وضع العراق تحت الانتداب البريطاني، وهو نظام دولي فرضته عصبة الأمم لإدارة الأقاليم التي كانت تحت سيطرة الدول المهزومة في الحرب العالمية الأولى.
  • أثار نظام الانتداب استياءً واسعًا في العراق، وتوج ذلك باندلاع ثورة العشرين عام 1920، وهي انتفاضة شعبية واسعة النطاق ضد الحكم البريطاني.
  • استجابة للثورة والضغوط الوطنية، بدأت بريطانيا في تغيير سياستها، وتوجهت نحو إقامة نظام حكم ملكي دستوري في العراق.
  • تم تنصيب فيصل الأول ملكًا على العراق في عام 1921، وبدأت عملية تشكيل مؤسسات الدولة العراقية الحديثة تحت إشراف بريطاني.
  • تم توقيع المعاهدة العراقية البريطانية عام 1922، التي حددت العلاقة بين البلدين ونصت على إنهاء الانتداب تدريجيًا.
  • استمرت بريطانيا في ممارسة نفوذ كبير على السياسة والاقتصاد العراقيين خلال فترة الانتداب.

4. مرحلة الاستقلال الشكلي (1932):

  • تم إنهاء الانتداب البريطاني رسميًا وإعلان استقلال العراق في عام 1932، وانضم العراق إلى عصبة الأمم كدولة مستقلة.
  • إلا أن الوجود والنفوذ البريطانيين استمرا في العراق من خلال المعاهدات والمصالح الاقتصادية والعسكرية، خاصة فيما يتعلق بالنفط.

خلاصة:

كان الاحتلال البريطاني للعراق نتيجة لتداخل مجموعة من الأسباب الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، وتطور على عدة مراحل بدأت بالغزو العسكري، مرورًا بالإدارة المؤقتة والانتداب، وصولًا إلى الاستقلال الشكلي الذي لم ينهِ تمامًا النفوذ البريطاني في البلاد. لقد تركت هذه الفترة بصمات عميقة على تاريخ العراق الحديث وتكوينه السياسي والاجتماعي.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال