هل هناك حب بلا جماع ولا نكاح بين الزوجين؟.. الجماع يطفئ نار المحبة ويبرد حرارتها ويسكن نفس المحب والمودة التي بين الزوجين والمحبة بعد الجماع أعظم من التي كانت قبله



هل هناك حب بلا جماع ولا نكاح بين الزوجين؟

ماذا تقول فيما يسمونه بـ"الحب العذري"، وهو الحب الروحي كما يطلقون عليه، فلا جماع فيه ولا نكاح، فهل هناك حب بلا جماع ولا نكاح بين الزوجين؟

ليس هناك حب عذري بين الزوجين:

ـ الجواب: "قال أبو الهذيل العلاف: لا يجوز فى دور الفلك ولا في تركيب الطبائع ولا في الواجب ولا في الممكن أن يكون محب ليس لمحبوبه إليه ميل، وإلى هذا المذهب ذهب أبو العباس الناشئ حيث يقول:
عيناكِ شاهـدتان أنـك مـن -- حر الهوى تجدين ما أجد
بـك ما بنا لكن على مضضٍ -- تتجلديــن ومـا بنا جلـد

وقال أبو عيينه:
تبيت بنا تهذي وأهـذي بذكرها + كلانا يقاسى الليـل وهـو مسهد
وما رقدت إلا رأتني ضجيعها + كذاك أراها فى الكرى حين أرقد
تقـر بذنبي حيـن أغفو ونلتقى + وأسألها يقظــان عنــه فتجحــد
كلانا سواء في الهوى غير أنها + تجلــد أحيانــاً ومـا لـى تجلـد

وقال عروة بن أذينة:
إن التي زعمــت فـؤادك ملها + خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فبك الذي زعمت بها فكلاكما + أبــدى لصاحبــه الصبابــة كلهـا
 

شهوة الجماع بين الذكر والأنثى للامتزاج والاختلاط بين البدنين:

فإذا تشاكلت النفوس وتمازجت الأرواح وتفاعلت تفاعلت عنها الأبدان وطلبت نظير الامتزاج والجوار الذي بين الأرواح، فإن البدن آلة الروح ومركب، وبهذا ركب الله سبحانه شهوة الجماع بين الذكر والأنثى طلباً للامتزاج والاختلاط بين البدنين كما هو بين الروحين، ولهذا يسمى جماعاً وخلاطاً ونكاحاً وإفضاء؛ لأن كل واحد منهما يفضي إلى صاحبه فيزول الفضاء بينهما.

تأكيد الحب بالجماع:

فإن قيل: فهذا يوجب تأكد الحب بالجماع وقوته به، والواقع خلافه، فإن الجماع يطفئ نار المحبة ويبرد حرارتها ويسكن نفس المحب.
قيل: الناس مختلفون فى هذا فمنهم من يكون بعد الجماع أقوى محبة وأمكن وأثبت مما قبله، ويكون بمنزلة من وصف له شئ ملائم فأحبه فلما ذاقه كان له أشد محبة وإليه أشد اشتياقاً، وقد ثبت في الصحيح عن النبي (ص) في حديث عروج الملائكة إلى ربهم أنه سبحانه يسألهم عن عباده وهو أعلم بهم فيقولون: "إنهم يسبحونك ويحمدونك ويقدسونك؟، فيقول: وهل رأونى؟ فيقولون: لا؟ فيقول: فكيف لو رأوني؟! تقول الملائكة: لو رأوك لكانوا أشد تسبيحاً وتقديساً وتمجيداً، ثم يقولون: ويسألونك الجنة، فيقول؟ وهل رأوها؟ فيقولون: لا فيقول: فكيف لو رأوها؟ فتقول الملائكة: لو رأوها لكانوا أشد لها طالباً" وذكر الحديث، ومعلوم أن محبة من ذاق الشيء الملائم وعدم صبره عنه أقوى من محبة من لم يذقه، بل نفسه مفطومة عنه، والمودة التي بين الزوجين والمحبة بعد الجماع أعظم من التي كانت قبله، والسبب الطبيعى أن شهوة القلب ممتزجة بلذة العين، فإذا رأت العين اشتهى القلب، فإذا باشر الجسمُ الجسمَ اجتمع شهوة القلب ولذة العين ولذة المباشرة، فإذا فارق هذه الحال كان نزاع نفسه إليها أشد وشوقه إليها أعظم، كما قيل:
وأكثر ما يكون الشوق يوماً -- إذا دنت الديارُ من الديارَ

الألم والحسرة على فراق المحبوب:

ولذلك يتضاعف الألم والحسرة على من رأى محبوبه أو باشره ثم حيل بينه وبينه، فتضاعف ألمه وحسرته فى مقابلة مضاعفة لذة من عاوده، وهذا فى جانب المرأة أقوى، فإنها إذا ذاقت عسيلة الرجل ولا سيما أول عسيلة لم تكد تصبر عنه بعد ذلك، قال أيمن بن خريم:
يميت العتابُ خلاطَ النساء -- ويحي اجتناب الخلاط العتابا

يموت الحب إذا كان دون جماع:

وتزوج زهير بن مسكين الفهرى جارية ولم يكن عنده ما يرضيها به، فلما أمكنته من نفسها لم تر عنده ما ترضى به فذهبت ولم تعد، فقال فى ذلك أشعاراً كثيرة منها:
تقــول وقــد قبَّلتها ألــفَ قبلة + كفاك أما شئ لديك سوى القبل
فقلت لها حب على القلب حفظه + وطـول بكاء تستفيض لـه المقل
فقالت لعمر الله مـا لــذة الفتـى + من الحب فى قول يخالفه الفعل

وقال آخر:
رأت حبي سعـاد بـلا جماع + فقـالت حبـلنا حبل انقطاع
ولسـت أريد حبــاً ليس فيه + متاع منك يـدخل في متاعي
فلــو قبـلتني ألفــاً وألفــاً + لمـا أرضيــت إلا بالجـماع
إذا ما الصب لم يك ذا جماع + يرى المحبوب كالشئ المضاع
جماع الصـب غـاية كل أنثى + وداعية لأهل العشـق داعي
فقلت لهــا وقد ولت تعالي + فإنك بعد هذا لن تـراعي
وإنــك لو سـألت بقاء يوم + خلي عـن جمـاعـك لن تطاعي
فقـالت مرحباً بفتى كريم + ولا أهـلاً بــذى الخنع اليراع
إذا مـا البعـل لـم يك ذا جماع + يُرى في البيت مـن سقط المتاع

وقال آخر:
ولمــا شكوت الحب قالت كذبتنى + فكم زورة مني قصدتك خالياً
فمــا حــل فيهـا مـن إزار للـــذة + قعدت وحاجات الفؤاد كما هيا
وهــل راحــة للمـرء فى ورد منهل + ويرجـع بعد الورد ظمآن صادياً

وقال العباس بن الأحنف:
لم يصفْ وصل لمعشوقين لم يذقا + وصلاً يجل على كل اللذاذات

وقال هدبة بن الخشرم:
والله ما يشـفى الفـؤاد الهائمـا + نفــث الرقـى وعقدك التمائما
ولا الحديــث دون أن تلازما+ ولا اللـزام دون أن تفــاعـما
ولا الفعــام دون أن تفــاقمـا + وتعلو القـوائمُ القـوائما

وقال آخر:
قولا لعـاتـكة التي + في نظـرة قضت الوطر
إنـي أريدك للنكـاح + ولا أريدك للنـظـر
لـو كان هـذا مقـنعي + لقنـعـت عنـها بالقمـر

وقال آخر:
دواء الحب تقبيــل وشـم + ووضع للبطون على البطون
ورهز تــذرف العينان منـه + وأخـذ بالمناكب والقـرون

وقالت امرأة وقد طُلِبت منها المحادثة:
ليــس بهــذا أمـرتنــى أمـي -- ولا بتقبيــــلٍ ولا بشـــمٍ
لكــنْ جماعـاً قد يسلى همي + يسقـط منه خاتمي في كمي
 
وقد كشف الشاعر سبب ذلك حيث يقول:
لـو ضم صبٌ إلفه! ألفاً لما -- أجـدى وزادت لوعة وغرام
أرواحهم من قبـل ذاك تألفت -- فتألفـت من بعدها الأجسام

وقال المؤلف:
سألت فقيه الحب عن علة الهوى + وقلت له أشكو إلـى الشيخ حاليا
فقال دواء الحب أن تلصق الحشا + بأحشاء من تهوى إذا كنت خاليا
وتتحــدا مــن بعــد ذاك تعـانقـا + وتلثمـه حتى يــرى لك ناهيـا
فتقضـي حـاجات الفـؤاد بأسرها + على الأمن مـا دام الحبيب مؤاتيا
إذا كـان هـذا فـي حلالٍ فحبذا + وصال بـه الرحمن تلقــاه راضياً
وإن كان هـذا في حـرام فإنه + عــذاب به تلقى العنا والمكاويا

قال هؤلاء: ولا يستحكم الحب إلا بعد أن يشق الرجل رداءه وتشق المرأة المعشوقة برقعها كما قال الشاعر:
إذا شــق بــرد شــق بالبرد برقـع + دواليــك حتــى كلنـا غير لانس
فكــم قــد شققنا مـن رداء محبر + ومــن برقــع عن طفلة غير عانس

ولما بلغ بعض الظرفاء قول المأمون: ما الحب إلا قبلة، الأبيات، قال: كذب المأمون، ثم قال:
وباض الحب في قلبي + فـوا ويلاً إذا فـرخ
وما ينفعني حبي + إذا لم أكنس البربخ
وإن لم يضع الأصلع + خرجيه على المطبخ

وقال ابن الرومي:
أعانقـــها والنفـس بعـد مشوقة + إليهــا وهــل بعد العناق تداني
وألثـم فاها كي تـزول صبابتي! + فيشتـد ما ألقـى من الهيمان
ولم يك مقدار الذي بي من الجوى + ليشفيه ما تـرشف الشفتان
كـأن فؤادى ليس يشفـى غليلــه + سـوى أن أرى الروحيـن تمتزجان

الجماع يفسد العشق ويبطله ويضعفه:

ورأت طائفة أن الجماع يفسد العشق ويبطله أو يضعفه واحتجت بأمور منها: أن الجماع هو الغاية التي تطلب بالعشق فما دام العاشق طالباً فعشقه ثابت، فإذا وصل إلى الغاية قضى وطره وبردت حرارة طلبه وطفئت نار عشقه، قالوا: وهذا شأن كل طالب لشيء إذا ظفر به، كالظمآن إذا روى والجائع إذا شبع، فلا معنى للطلب بعد الظفر، ومنها: أن سبب العشق فكري وكلما قوى الفكر زاد العشق، وبعد الوصول لا يبقى الفكر، ومنها: أنه قبل الظفر ممنوع والنفس مولعة بحب ما منعت منه كما قال:
وزادني كلفاً في الحب أن منعت + أحب شيء إلى الإنسان ما منعا    

وقال الآخر:
لولا طراد الصيد لم تك لذة + فتطاردي لي بالوصال قليلاً

ما نكح حب إلا فسد:

قالوا: وكانت الجاهلية الجهلاء في كفرهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً، وكانوا يصونون العشق عن الجماع، كما ذكر أن أعرابياً علق امرأة فكان يأتيها سنين وما جرى بينهما ريبة، قال: فرأيت ليلة بياض كفها في ليلة ظلماء فوضعت يدي على يدها، فقالت: مه، لا تفسد ما صلح، فإنه ما نكح حب إلا فسد، فأخذ ذلك المأمون فقال:
ما الحب إلا نظرة + وغمـز كـفٍ وعضد
أو كتب فيها رقــى + أجل من نفث العقــد
ما الحب إلا هـكذا + إن نكـح الحب فسـد
من كان هــذا حبه +  فإنما يبغي الولد      
 
وهوة آخرٌ امرأة فدام الحال بينهما فى اجتماع وحديث ونظر، ثم إنه جامعها، فقطعت الوصل بينهما فقال:
لو لم أواقع دام لي وصلها + فليتني لا كنت واقعتها

وقيل لآخر شكا فراق محبوبة له:
أكثــرت من وطئها والوطء مسأمة + فارفق بنفسك إن الرفق محمود

الجماع الحرام يفسد الحب:

قال الأصمعي: قلت لأعرابية ما تعدون العشق فيكم؟ قالت: العناق والضمة والغمزة والمحادثة، ثم قالت: يا حضرى: فكيف هو عندكم؟ قلت: يقعد بين شعبها الأربع ثم يجهدها، قالت: يا ابن أخى ما هذا عاشق هذا طالب ولد.

وسئل أعرابي عن ذلك فقال: مص الريق ولثم الشفة والأخذ من أطايب الحديث، فكيف هو فيكم أيها الحضرى؟ فقال: العفس الشديد والجمع بين الركبة والوريد، ورهز يوقظ النائم ويشفى القلب الهائم، فقال: بالله ما يفعل هذا العدو الشديد، فكيف الحبيب الودود.

والمقصود: أن هذه الفرقة رأت أن الجماع يفسد العشق، فغارت عليه مما يفسده وإن لم تتركه ديانة، ويحكى أن رجلاً عشق امرأة فقالت له يوماً: أنت صحيح الحب غير سقيمه، وكانوا يسمون الحب على الخنا الحب السقيم، فقال: نعم، فقالت: اذهب بنا إلى المنزل، فما هو إلا أن حصلت فى منزله فلم يكن له همة غير جماعها، فقالت له وهو كذلك:
أسرفت في وطئنا والوطء مقطعة + فارفق بنفسك إن الرفق محمود

فقال لها وهو على حاله:
لو لم أطأك لما دامت محبتنا + لكن فعلى هـذا فعل مجهود

فنفرت من تحته وقالت: يا خبيث أراك خلاف ما قلت من صحة الحب، ولم تجعل جماعى إلا سبباً لذهاب حبك، والله لا ضمنى وإياك سقفٌ أبداً.

وفصل الخطاب بين الفريقين أن الجماع الحرام يفسد الحب ولا بد أن تنتهي المحبة بينهما إلى المعاداة والتباغض والقلى كما هو مشاهد بالعيان، فكل محبة لغير الله آخرها قلى وبغض فكيف إذا قارنها ما هو من أكبر الكبائر" .