المنظور الإيديولوجي في ثلاثية نجيب محفوظ.. امتناع الراوي عن إصدار الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات الإيديولوجي



لدى تطبيق (المنظور الإيديولوجي) وجدت الباحثة أن (الثلاثية) عمل متعدّد الأصوات. وأوضح السمات التي تُظهر هذا التعدد هو امتناع الراوي عن إصدار الأحكام العامة المنفصلة عن منظور الشخصيات الإيديولوجي، تلك الأحكام التي تشبه الحِكَم، وتقف مستقلة عن النص، محتفظة بدلالة مطلقة.

وهذا بخلاف روايات الواقعيين الغربيين حيث نستطيع أن نستخرج من رواياتهم كتيباً مليئاً بالحكم والأمثال التي لم ترد على لسان أي من شخصياتهم، ولكنها ترد على لسان الراوي، دون أن تدخل في نسيج النص، حيث ينقطع خط القصّ ويعلو صوت الراوي، مثل (الكورس) اليوناني، معلناً المنظور الإيديولوجي الذي يحكم الرواية بطريقة مباشرة، وحيث يمكن استخراج هذه الفقرات من سياق الرواية دون إخلال ببنائها.

لقد خلت (الثلاثية) من مثل هذه المقاطع المنفصلة، على لسان الراوي، والتي تمثّل منظوراً إيديولوجياً أكبر من الشخصيات، ويأتي من خارجها.

فلم يلجأ محفوظ إلى هذا الأسلوب إلا في مقطع واحد في (بين القصرين) عالج فيه العلاقة بين قانون الوراثة وقانون الزمن: فأمينة جالسة قبالة أمها، والراوي يتأملهما ويقول: (كان في تقابلهما جنباً لجنب ما يدعو إلى تأمل قوانين الوراثة العجيبة وقانون الزمن الصارم، كأنهما شخص واحد، وصورته المنعكسة في مرآة المستقبل، أو نفس الشخص وصورته المنعكسة في مرآة الماضي).

وترى الباحثة أن (بوليفونية) الثلاثية وحرفية محفوظ هي التي مكّنته من التزام التعبير من خلال شخصياته. وفي المرات النادرة التي خرج منها عن منظور الشخصية فعل ذلك بحرصٍ شديد، كأن يضع أحكامه كجملة اعتراضية في مثل قوله: (ولما اقترب الضابط من البيت رفع عينيه في حذر، دون أن يرفع رأسه، فلم يكن أحد يرفع رأسه في مصر وقتذاك ـ فأضاءت أسارير وجهه ـ ص30 بين القصرين).

فالجملة الاعتراضية هنا تعبّر عن منظور الراوي، وعن طبيعة الفترة التاريخية التي كانت تمر بها مصر.
ويخرج هذا التقييم عن نطاق الشخصيتين المشتركتين في هذا المشهد.

ومن السمات (البوليفونية) في الثلاثية أن المؤلف لم يتحيّز لمنظومة قيم أي من الشخصيات ـ سواء الإيجابية منها أو السلبية ـ فلم يعاقب (الشرير) ولم يكافئ (الخيّر)، ولم يُسقط ياسين الذي استسلم لنزواته، أو يُنهيه نهاية سيئة نتيجة استسلامه لجوانب الضعف في شخصيته.

ولو أن شخصية ياسين كانت بين يدي (زولا) مثلاً لكان مصيرها الحتمي الدمار والانهيار أو الجنون، بل إن زواجه من زنوبة الذي لم يكن من المتوقع له أن يستمر أو ينجح - دع عنك أن يحقق له السعادة والاستقرار - في إطار قيم المجتمع المحيط به، خالف توقعات المحيطين به، حيث حقق له هذا الزواج حياة هادئة سعيدة في إطار اجتماعي فرض على عائلته تقبّله واحترامه.

بل إن (إيديولوجية) الثلاثية تجاه الزمن كانت محايدة، فلم ينظر إليها نظرة سلفية ترى أن جيل الأمس أفضل من جيل اليوم، وأن جيل الغد أسوأ الثلاثة، وأن سنّة التطور تتدرّج على سلم الارتقاء، بل جاءت نظرته إلى تخلف الأجيال نظرة محايدة، إذ رأى فيهم أشخاصاً تتعايش وتتفاعل في لحظة زمنية معينة دون أن يؤدي ذلك إلى تفضيل جيل على آخر.

وإذا كان تعدد الأصوات (البوليفونية) عند محفوظ قد ظهر واضحاً في الثلاثية على المستوى الأخلاقي والاجتماعي بشكل محايد وساوى بين مختلف القيم على هذين المستويين، فإنه لم يحقق نفس الدرجة من الحيدة الفكرية والسياسية، فظهر تعاطفه الفكري مع (كمال) الباحث عن الحقيقة، ومع (أحمد) الشيوعي، في مقابل (عبد المنعم) الأخ المسلم. لكنه حرص على ألا يحكم على أي منهم حكماً أخلاقياً، أو يخضعه لمنظومة قيم خارجية تفضل واحداً على آخر.


المواضيع الأكثر قراءة