مقاربة تمثلات المتعلمين أثناء عملية التعليم والتعلم: مفتاح لفهم أعمق وتعلّم أكثر فعالية
تُشكل تمثلات المتعلمين (Learners' Representations)، أو ما يُعرف أيضًا بـ المفاهيم القبلية (Preconceptions)، الخبرات السابقة (Prior Knowledge)، أو التصورات الذاتية (Personal Understandings)، حجر الزاوية في فهم كيفية بناء المعرفة واكتسابها. هذه التمثلات ليست مجرد أفكار عشوائية، بل هي هياكل معرفية ينظمها المتعلمون في عقولهم لفهم العالم من حولهم، بما في ذلك المفاهيم العلمية، الاجتماعية، أو حتى الإجرائية. إن مقاربة هذه التمثلات أثناء عملية التعليم والتعلم تُعد خطوة أساسية نحو تعليم أكثر فعالية وذو معنى، حيث إنها تؤثر بشكل مباشر على كيفية استيعاب المعلومات الجديدة أو مقاومتها.
1. مفهوم تمثلات المتعلمين وأهميتها
ما هي تمثلات المتعلمين؟
هي البنى الذهنية أو الأطر المفاهيمية التي يُشكلها الأفراد بناءً على تجاربهم الشخصية، تفاعلاتهم مع البيئة، المعلومات التي يتلقونها من مصادر مختلفة (مثل الأسرة، الأقران، الإعلام)، وحتى من تصوراتهم البديهية. هذه التمثلات قد تكون:
- مفاهيم خاطئة (Misconceptions): أفكار تتعارض مع المفاهيم المقبولة علميًا أو الصحيحة.
- مفاهيم بديلة (Alternative Conceptions): تفسيرات مختلفة للظواهر قد تكون منطقية للمتعلم في إطاره المرجعي، حتى لو لم تتوافق مع التفسيرات العلمية.
- معرفة ضمنية (Implicit Knowledge): أفكار يمتلكها المتعلم دون أن يكون واعيًا تمامًا بوجودها أو كيف تُؤثر على فهمه.
- نماذج عقلية (Mental Models): هياكل ذهنية تُستخدم لتمثيل وفهم نظام أو ظاهرة معينة.
لماذا تُعد تمثلات المتعلمين مهمة؟
نقطة البداية للتعلم: يرى المنظور البنائي (Constructivism) أن التعلم لا يبدأ من "اللوح الفارغ"، بل يبدأ من المعرفة الموجودة لدى المتعلم. هذه التمثلات هي الأساس الذي تُبنى عليه المعرفة الجديدة أو تتفاعل معها.
- تأثيرها على استيعاب المعلومات: إذا كانت التمثلات السابقة قوية ومتعارضة مع المفاهيم الجديدة، فقد تُعيق عملية التعلم أو تُؤدي إلى سوء فهم. المتعلم قد يُفسر المعلومات الجديدة في ضوء تمثلاته القديمة، أو قد يرفضها تمامًا.
- تفسير الفروق الفردية: تساعد مقاربة التمثلات في فهم لماذا يستوعب بعض المتعلمين المفاهيم بسهولة بينما يواجه آخرون صعوبات، حتى عند تعرضهم لنفس المحتوى التعليمي.
- تصميم تعليم فعال: تُمكن المعلمين من تصميم استراتيجيات تعليمية تستهدف هذه التمثلات بشكل مباشر، وتُساعد المتعلمين على إعادة بناء فهمهم.
2. الكشف عن تمثلات المتعلمين: الأدوات والأساليب
للكشف عن هذه التمثلات، يحتاج المعلمون إلى استخدام مجموعة متنوعة من الأدوات والأساليب، تتجاوز الاختبارات التقليدية التي تقيس الحفظ والاسترجاع.
- الاختبارات التشخيصية الموجهة:
- أسئلة الاختيار المتعدد مع المبررات (Multiple-Choice Questions with Justification): لا يطلب هذا النوع من الأسئلة الإجابة الصحيحة فحسب، بل يطلب من المتعلم أيضًا شرح سبب اختياره، مما يكشف عن طريقة تفكيره.
- أسئلة التصنيف أو التجميع (Classification or Grouping Tasks): يُطلب من المتعلمين تصنيف مفاهيم أو أمثلة معينة، وشرح معايير التصنيف.
- الأسئلة المفتوحة والمقابلات:
- الأسئلة الاستقصائية (Probing Questions): طرح أسئلة تُشجع المتعلمين على التفكير بصوت عالٍ وشرح فهمهم للظواهر (مثال: "صف لي ماذا يحدث عندما..."، "ماذا تعتقد أن السبب في ذلك؟").
- المقابلات السريرية (Clinical Interviews): إجراء مقابلات فردية متعمقة مع المتعلمين، حيث يُمكن للمعلم أن يتبع إجابات المتعلم بأسئلة إضافية لفهم البنية المفاهيمية بشكل أعمق.
- مهام الرسم والتصميم:
- رسومات المفاهيم (Concept Maps): يُطلب من المتعلمين رسم خرائط مفاهيمية تُظهر العلاقات بين الأفكار والمفاهيم، مما يكشف عن تنظيمهم المعرفي.
- رسومات توضيحية للظواهر (Diagrams/Drawings of Phenomena): يُطلب من المتعلمين رسم ما يعتقدون أنه يحدث في ظاهرة معينة (مثال: رسم دورة الماء، أو كيف تعمل الدائرة الكهربائية).
- المناقشات الصفية والعمل الجماعي: تشجيع المتعلمين على التعبير عن أفكارهم، الدفاع عن وجهات نظرهم، والاستماع إلى أفكار الآخرين. في هذه البيئة، تظهر التمثلات المختلفة وتُصبح مجالًا للنقاش والتصحيح.
- ملاحظة الأداء: ملاحظة كيفية تعامل المتعلمين مع المهام العملية، حل المشكلات، أو التجارب المخبرية. الأخطاء المتكررة في الأداء قد تُشير إلى تمثلات خاطئة.
3. استراتيجيات مقاربة التمثلات في عملية التعليم والتعلم
بمجرد الكشف عن تمثلات المتعلمين، يجب على المعلم تبني استراتيجيات تعليمية تُمكن المتعلمين من معالجة هذه التمثلات وتعديلها أو إعادة هيكلتها.
- إثارة الصراع المعرفي (Cognitive Conflict/Disequilibrium):
- تقديم أمثلة، تجارب، أو سيناريوهات تُعارض بوضوح تمثلات المتعلمين الخاطئة. الهدف هو خلق "صراع" أو "اضطراب" معرفي يدفع المتعلم لإعادة النظر في فهمه الحالي.
- مثال: عند تدريس مفهوم الجاذبية، قد يُعتقد أن الأجسام الثقيلة تسقط أسرع. يمكن للمعلم أن يُظهر تجربة إسقاط جسمين مختلفين في الكتلة (مثل ريشة وقطعة معدن) في الفراغ، أو باستخدام قوانين فيزيائية لتوضيح سقوطها بنفس السرعة.
- استراتيجيات التغيير المفاهيمي (Conceptual Change Strategies):
- تُركز على مساعدة المتعلمين على استبدال أو تعديل مفاهيمهم الخاطئة بمفاهيم أكثر دقة علميًا. يتطلب ذلك:
- إقناع المتعلم بعدم كفاية المفهوم الحالي.
- تقديم مفهوم جديد معقول ومنطقي.
- إظهار قابلية المفهوم الجديد للتطبيق وقوته التفسيرية.
- إتاحة الفرصة للمتعلم لتطبيق المفهوم الجديد في سياقات مختلفة.
- استخدام التمثيلات المتعددة (Multiple Representations): تقديم المفاهيم من خلال أشكال مختلفة: النصوص، الرسوم البيانية، النماذج، التجارب العملية، المحاكاة الرقمية. هذا يساعد المتعلمين على بناء فهم أكثر شمولية وقد يُسهم في تحدي تمثلاتهم الأحادية.
- التعلّم التعاوني والمناقشة البنائية: تشجيع المتعلمين على العمل في مجموعات لمناقشة الأفكار، تبادل وجهات النظر، وشرح المفاهيم لبعضهم البعض. هذا التفاعل يُمكن أن يُسلط الضوء على التمثلات المختلفة ويُساعد المتعلمين على تصحيح مفاهيمهم من خلال التفاعل مع أقرانهم.
- تقديم أنشطة تعزز الاستدلال العلمي: تصميم مهام تتطلب من المتعلمين صياغة فرضيات، جمع بيانات، تحليل النتائج، واستخلاص استنتاجات، مما يُعزز التفكير النقدي ويُساعد على بناء فهم مستنير.
- التغذية الراجعة البناءة: تقديم ملاحظات محددة وموجهة للمتعلمين حول تمثلاتهم وأخطائهم، مع توجيههم نحو الفهم الصحيح وتقديم الدعم اللازم.
التحديات والاعتبارات في مقاربة التمثلات
على الرغم من أهمية مقاربة التمثلات، إلا أن العملية لا تخلو من التحديات:
- صعوبة الكشف: قد يكون من الصعب دائمًا الكشف عن جميع التمثلات الضمنية أو العميقة لدى المتعلمين.
- مقاومة التغيير: غالبًا ما تكون التمثلات السابقة راسخة ومقاومة للتغيير، خاصة إذا كانت قد خدمت المتعلم لفترة طويلة في تفسير العالم.
- الزمن والجهد: تتطلب مقاربة التمثلات وقتًا وجهدًا كبيرين من المعلم، بالإضافة إلى فهم عميق للمحتوى وطرق التدريس.
- الفروق الفردية: تختلف التمثلات من متعلم لآخر، مما يتطلب من المعلم تكييف استراتيجياته لتناسب الاحتياجات المتنوعة.
- إمكانية العودة للمفاهيم القديمة: حتى بعد التغيير المفاهيمي، قد يعود المتعلمون إلى تمثلاتهم القديمة، خاصة في غياب التعزيز المستمر أو عند مواجهة سياقات جديدة.
دور المعلم في مقاربة التمثلات
يتحول دور المعلم في هذه المقاربة من مجرد ناقل للمعرفة إلى:
- ميسّر للتعلم: يُنشئ بيئة تعليمية تُشجع على الاستكشاف والتساؤل.
- مُشخص للتمثلات: يُجيد استخدام الأدوات لكشف المفاهيم القبلية.
- مصمم استراتيجيات التغيير: يُخطط لأنشطة تُثير الصراع المعرفي وتُساعد على إعادة البناء المفاهيمي.
- داعم ومُوجه: يُقدم الدعم والتغذية الراجعة للمتعلمين خلال عملية التغيير الصعبة.
- متعاون مع الزملاء: يتبادل الخبرات والأفكار مع معلمين آخرين حول كيفية التعامل مع التمثلات الشائعة.
خلاصة:
إن مقاربة تمثلات المتعلمين ليست مجرد تقنية تعليمية، بل هي فلسفة تربوية تعترف بأن التعلم عملية نشطة وبنائية. من خلال فهم ما يعرفه المتعلمون بالفعل (أو يعتقدون أنهم يعرفونه)، يمكن للمعلمين بناء جسور فعالة بين المعرفة السابقة والمعرفة الجديدة، ومساعدة المتعلمين على تجاوز المفاهيم الخاطئة، وتشكيل فهم أعمق وأكثر دقة للعالم. هذا النهج لا يُعزز الفهم المفاهيمي فحسب، بل يُنمي أيضًا التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات، مما يُعد المتعلمين لمواجهة تحديات التعلم مدى الحياة.
التسميات
تمثلات