بيت نور في رواية اللص والكلاب:
استعمل الراحل "غالب هلسا" في احدى دراساته النقدية – و هو الروائي المتمرس – في تحليله للشخصية النسائية في الكتابة الروائية تعبير: 'المومس الفاضلة' كناية على 'شخصية المراة'/ الضحية التي يعتبرها القانون الاجتماعي/ الاخلاقي' ساقطة و 'منحرفة' في حين لا تخلو من "بعدها الانساني".
دور إنساني ودرامي:
وهذا الوصف مناسب جدا لشخصية "نور" في رواية "اللص و الكلاب" :ففي الوقت الذي يشمل نعت "كلاب" كل الشخصيات المقبولة اجتماعيا/اخلاقيا – حسب سعيد – فان "نور" تلعب دورا إنسانيا/ دراميا في حياة البطل.
فرغم سقوطها الفادح في براثين رذيلة المجتمع، و احترافها للدعارة، فانها تظل رمزا للنور في حياة سعيد المظلمة! انها الوحيدة التي تعرض على سعيد الاستقرار في بيتها "تعالى الى بيتي" ص80.
مأوى البطل الهارب:
هذا البيت الذي سيصبح "ماوى" البطل الهارب من كل الاشخاص وكل الاماكن .يتموقع هذا البيت في "شارع نجم الدين قرب باب النصر" ص80.وللنجم و النصردلالة ايجابية لكنه يرتبط سلبا بالقرافة/ المقبرة.
إنه ماوى تتساكن فيه الحميمية والأمن مع الخوف و الترقب، يدخل سعيد او يخرج منه متسللا :" كان يغادر البيت في حذر .... و ازداد بمغادرة المخبا وعيا باحساس المطارد فشارك الفئران و الثعابين مشاعرها حين تتسلل" ص132.
داخل هذا الماوى/ المخبا يحس البطل باطمئنان جزئي، لان المكان لا يحقق له الاطمئنان الكلي كما هو في البيت/عندي (حسب لوتمان)، ورد في ص118: "و انتشر الظلام نعم انتشر الظلام في الحجرة و خارج النافذة و زاد صمت القبور صمتا و لا يمكن ان يضيء المصباح كي تبقى الشقة كما الفت الوجوه الكريهة... يجب ان تبقى الشقة صامتة كالقبر".
فسعيد محكوم عليه ان يعيش حالة سجن جديدة ، أي: انعدام حرية الحركة و فتح النافدة و اشعال الاضواء خلال غياب "نور"، داخل الشقة الذي من المفروض ان يحقق الامان يتساوى مع خارجها المغمور بالظلام، الداخل يصبح شبيها بالقبر فيفقد بذلك المكان المنغلق دلالاته الايجابية ويصبح المفتوح والمغلق معا بنفس الدلالة المعادية لاحساس سعيد.
ولا يسترجع البيت معناه الايجابي سوى بعد عودة "نور" اذ يعود النور للاشتعال و تدب الحركة لطرد عزلة سعيد و تلون وقته "الذي قضاه بين الظلمة و النور" ص122. بالوان الحياة: الطعام و الشراب والجرائد و الحوار حول احوال الخارج /الشارع... و لكن الحالة تظل مؤقتة، فكلما خرجت نور للغرق في اوحال المجتمع، إلا و عادت حالة الاختناق التي يعيشها سعيد "ووقف في الظلام يطوقه صوت القبور" ص178.
و حين يرغب في تكسير عزلته يمضي "الى الشيش فينظر من خلاله الى القرافة و قد رقدت القبور تحت ضوء القمر" ص178.
و يولد المكان احاسيس متضاربة في نفسية سعيد: "انا هنا في مكان امن لن تمتد اليه عين البوليس" ص171.
حين يحس بالامان لكنه يحس بالاختناق تارة اخرى : " لا فرق بيني و بينكم الا اني داخل القفص و انتم خارجه" ص179.
هذا التمزق بين الاحساس بالامن و الاحساس بالاختناق، يجعل المكان يتلون بمشاعر الشخصية.لكن الغابة-حسب لوتمان- تظل اعم من "البيت" و اخطر منه في جميع الاحوال، وهذه هي حالة سعيد داخل شقة نور، فهو حين يسعى الى التخلص من اختناق البيت، لا يرى خارجه سوى ما هو أسوا: "ولم يجد من تسلية الا في النظر من الشيش الى القرافة متابعة الجنازات و عد القبور / دون جدوى" ص 187.
أي مظاهر الموت (الجنازات/القبور)، اما الشارع العام "فجنود الحكومة يملاونه" ص181.
إنه تمزق في الامكنة تعكسه تمزقات الذات، الداخل عذاب و الخارج خطر.
و حين تغيب نور في اخر الرواية عن البيت ،تطرقه صاحبته للسؤال عن ثمن الكراء، فيفقد سعيد ما تبقى له من الامان، تحاصره طرقات صاحبة البيت و الجوع و الظما و الانتظار والحر والظلام، فيصبح المكان في قمة المعاداة للشخصية، مما يضطرها الى الخروج للبحث عن مساعدة طرزان، لكن مقهى هذا الاخير لم تعد امنة ايضا كما كانت فيما قبل، فحين زارها اول مرة لم يكن قد بدا بعد في الانتقام و لم يقتل ضحيتين، اما الان فهو مطارد بتهمة قتل مزدوج. لذلك واجهه طرزان بالحقيقة المرة: "كن شديد الحذر لا يخلو شبر من مخبر" ص187.
و حين فقد شقة نور و خرج منها متسللا، فقد اخر معقل له كان هو الاكثرامانا، و لم يعد قادرا على زيارة مقهى طرزان ولا التجول في الشارع المسكون بالمخبرين" مما اضطره الى العودة حيث الشيخ الجنيدي "، كمرفا مؤقت لانه يعتبر: "بيتا غير مامون" ص204. و لكن افتقاده الى شقة نور بين له قيمته ،فعاد لزيارته ليفاجا انه اصبح محتلا من طرف ساكن جديد، فتاكد من الضياع التام لذلك المكان الاكثر امانا في حياته.
القرافة/ المقبرة:
حين اشرنا الى بيت /شقة نور ارتبط هذا المكان- جغرافيا- بموقع الموت(الجنازات/القبور)، التي ظلت حاضرة في نفسية سعيد مهران ،بل انه كان يحاور الاموات و يتامل في الجنازات ويحصي القبور... و خلال زيارته الاخيرة لشقة نور، التي لم تعد كذلك ،سيفاجا بكمين الكلاب كما يحلو له ان يسميهم أي الشرطة " انت محاصر... القرافة كلها محاصرة" حينها "رات عيناه المعذبتان بالخوف شبح الموت يشق الظلام" ص 212.
و تتحول المقبرة بالفعل الى قبر كبير يحتمي به" ارتمى اسفل القبر" ص217.
لكن ما جدوى مقاومة الموت داخل مكان الموت!!! وبعد مقاومة يائسة سيستسلم و تكتمل دورة عدوانية الاماكن التي تساهم في وضع حد لرغبته في الانتقام و تحقيق عدالته المفقودة!