الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها واهتمام النقد العربي الحديث بها في تواصله المباشر مع الاتجاهات النقدية الحديثة والفكر الأدبي العالمي

انتشرت الاتجاهات الجديدة المتصلة بالبنيوية وما بعدها انتشاراً كبيراً في الثمانينيات، وكانت طلائعها البنيوية منظورة في نقد الشعر، على الرغم من محاصرة النقد الواقعي والإيديولوجي، إذ ترجم كتاب غارودي «البنيوية: فلسفة موت الإنسان، «1969 وظهرت ترجمته بالعربية عام 1979.

وقد أخذ غالبية النقاد والباحثين بهذه الاتجاهات الجديدة، منشغلين على صياغة منهجية، على تفاوت فيما بينهم، ارتباكاً أو انبهارا ورصانة وتركيباً جديداً، وهذا عائد للموقف من هذه الاتجاهات الجديدة في الفكر الأدبي التي تبدو متطرفة ومغالية في فهم الظاهرة الأدبية، وفي كشف المعنى الأدبي.

فقد أصبحنا نقرأ نقداً أدبياً يستعير أدوات العلوم الأخرى غير الإنسانية كالرياضيات والهندسة وسوى ذلك حتى غدت الأبحاث النقدية ميداناً للأشكال الهندسية والرموز والإشارات التي تنتمي إلى طبيعة غير أدبية كما هو الحال مع الاتجاهات الحداثية كالبنيوية واللسانية والتفكيكية.

ثم لازم هذه الاتجاهات نزوع إلى التباس المصطلح بحكم قلقلته وعدم الاتفاق عليه، ونزوع إلى الاستهانة بالدلالة المعبرة عن حكمة التجربة الإنسانية، ونزوع إلى خطاب نخبوي يبتعد عن القارئ العادي ليستغرق في معنى خاص هو أشبه بالأسرار والطلاسم من خلال الإلحاح على فهم استعاري أو كنائي للمعنى الأدبي.

ولا شك أنها ظاهرة عالمية جعلت دعاة التقاليد الأدبية يتوجسون خيفة من انتشار هذه الاتجاهات المهددة للمعنى الأدبي.

فقد التفت الكثيرون إلى مأزق الفكر الأدبي الجديد مع مطلع الخمسينيات، ولاحظ بعضهم أن التفكير الأدبي منذ أوائل الخمسينيات يتصف بصفتين سائدتين، أولاهما أنه تخلى عن زعمه أن مكانه في مركز الدراسات الإنسانية أو قريباً منه، وقنع فيما يبدو إلى مكان جانبي.

أما الصفة الثانية، وهي وثيقة الصلة بالأولى فهي أنه توقف عامداً عن أن يظهر بمظهر الذي يضيف حقائق هامة عن الطبيعة البشرية، فهو في تحمسه لعلاقاته بفروع المعرفة الأخرى تحول ذاته إلى لون من اللعب.

وهذه نتيجة تكاد تكون ضرورية لتخليه عن زعمه بأن منزلته هي المركز بالنسبة إلى الأشياء، فحين فقد ثقته بمركزه من حيث هو معرفة تحول إلى ضرب، على الأقل، رأي المناهضين لها، وهذا من التسلية.

إن هاتين الصفتين اللتين جرى تمحيصهما من قبل ناقد معتبر هو جورج واطسن، ألحقهما بخلاصة لا ترضي دعاة هذه الاتجاهات الجديدة المتطرفة والمغالية، وهي أن حاجتنا الملحة العاجلة اليوم في ميدان الفكر الأدبي هي أن نهتم بما إذا كانت الحجج التي تقدم لنا سليمة أم فاسدة، وأن نظهر اهتمامنا بجدوى البحث في المعنى الأدبي.

ولن يخشى ذلك سوى أولئك الذين يعدون التفكير في الأدب تسلية أساساً، فهم وحدهم الذين تثبط همتهم هذه الخواطر.‏

ويؤيد هذه المخاوف صدور أكثر من كتاب يتحسس مخاطر هذه الاتجاهات، وألفت النظر إلى ذلك، لاهتمام النقد الأدبي العربي الحديث بها، واستعجاله إلى ترجمتها، مثل كتاب «الفكر الأدبي المعاصر» (1978 ظهرت ترجمته العربية عام 1980)، وفيه نقد واسع لهذه الاتجاهات حظيت بتأطير منهجي تأريخي لها في مقدمة المترجم محمد مصطفى بدوي (مصر)، وهو الناقد الحصيف العارف، ومثل كتاب «المعنى الأدبي من الظاهراتية إلى التفكيكية» (1984)، وظهرت ترجمته إلى العربية 1987)، وهو أشمل وأوسع في تعريفه النقدي بهذه الاتجاهات، وفي تعريتها، بقصد التعرف إلى طبيعتها المتطرفة التي تهمش الظاهرة الأدبية باسم علمية دراستها مما يجعل الأدب مفهوماً محيراً مغلقاً إلا على نخبة من المشتغلين به.

ومن المفيد أيضاً أن أشير بادئ ذي بدء إلى أن ما يجري في ساحة النقد الأدبي العربي حتى نهاية الثمانينيات إزاء هذه الاتجاهات هو أقرب إلى «التلقف» السريع غير الناجز منه إلى التمثل والوعي الذاتي والصدور عن مواقف متأصلة.

وهذا يبدو جلياً في جهود دوريات وضعت نفسها في خدمة الترويج لهذه الاتجاهات، كما هو الحال مع «الفكر العربي المعاصر» (بيروت) و«العرب والفكر العالمي» (بيروت).

أما دورية «فصول» فتسعى إلى التوازن بين التأصيل والمثاقفة في تلقي هذه الاتجاهات. وفي حديث مع عز الدين إسماعيل (أول رئيس تحرير لها)، وهو ناقد أدبي وأستاذ جامعي معروف، لاحظ أن النقد الأدبي العربي الحديث يتأصل اليوم في وعي المثاقفة.

فالتواصل المباشر مع الاتجاهات النقدية الحديثة والفكر الأدبي العالمي عن طريق اختبارها في العملية الأدبية القومية سبيل ـ تلحظه «فصول» بعناية واهتمام واضحين، وعندما سألته عن مخاطر الاستغراق النقدي في هذه الاتجاهات المتطرفة، رأى أن الشغل النقدي العربي يتطور إجابة على مثل هذه المخاطر.

أجل، إن المشكلة قائمة، حتى غطت على المناخ النقدي العام، فقد غدا الناقد الذي يلتفت عن هذه الاتجاهات متجنباً أيضاً، ولعل قراءات متمعنة للنتاج الغالب على النقد الأدبي، كما لاحظنا، تكشف عن شهوة اللحاق بالحشد والانغمار فيه.

فثمة نقاد من أقطار عربية مختلفة طوروا مسارهم النقدي واتخموا إجراءاتهم النقدية بالرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تنتمي إلى طبيعة النقد، أو تسعف في رؤية المعنى الأدبي.

وغالباً ما يستطيع هؤلاء النقاد أن يصلوا إلى خلاصاتهم، ويعيّنوا استخلاصاتهم من العملية النقدية في كتاباتهم بمعزل عن هذه الرسوم والأشكال والكلام والإشارات التي لا تثير سوى الأسف أحياناً، ومفارقة التقليد غير الأصيل إزاء طبيعة النقد الأدبي والأدب، وإزاء جهود التطور الذاتي للنقد الأدبي العربي الحديث.‏

ومن جهة أخرى، هناك حشد كبير من النقاد والعرب التي ظهروا في الثمانينيات لاهّم لهم سوى تطبيق هذه الاتجاهات على الأدب العربي الحديث، ولن يجد المرء صعوبة في إيراد عشرات الأسماء من الدوريات العربية التي تحتفي بهذا النقد المغرق في شكلانيته وتطرفه الهندسي والإشاري واللغوي.

إنهم يتقبلون اتجاهات ما بعد الحداثة ويمارسونها بجسارة فيما يصح وما لا يصح، حيث تحفل مئات الدراسات النقدية بالأشكال الهندسية والإحصاءات والجداول والأرقام والبيانات غير الأدبية.‏

لا شك، إن المشكلة تتعدى حدود القراءة الأدبية إلى الارتهان المطلق للمثاقفة حيث يصعب معها تأصيل النقد الأدبي العربي الحديث في تربته ومناخه، وضمن تقاليده القومية.

أما عن بعد النقد في فهم «المعنى الأدبي» فالنتيجة هي استغلاقه أكثر على التواصل العام، ومن المفيد أن أوضح شيئاً من فحوى كتاب «المعنى الأدبي» بالنظر إلى انتشار هذه الاتجاهات في النقد الأدبي العربي الحديث.

فقد عبّر فيه مؤلفه عن معاناة النقد الأدبي الحديث في بحثه عن المعنى الأدبي، فالقضية قائمة، ليس في الأدب العربي فحسب، بل في بلدان متقدمة ذهب النقد الأدبي فيها، ويذهب، مذاهب شتى، لا توافي دائماً طبيعة الأدب والنقد.‏

قال مؤلف الكتاب بصريح العبارة في مقدمته: «لقد أبدى النقد الأدبي دائماً قدراً من الألم لما يقوم به وللوجهة التي يقصدها.
ولعل لكّل جيل غروراً يجعله يعتقد أنه على عتبة عصر جديد يسلك سلوك خاتم أو قاهر كلّ ما سبقه.

لذا فقد كرس جزء من طاقة النقد الأدبي لتحديد الأهمية التاريخية للتطورات النقدية الجديدة، فظهر في العقد الماضي جدل عنيف بين أولئك الذين بشّروا بالحركتين البنيوية والتفكيكية Deconstruction، على أنهما فجر عصر جديد يزيل الغموض عن تأويل النصوص وتفسيرها، وبين الذين شجبوا الحركتين على أنهما هدم لكّل ما هو قيم وثمين في الميادين الخاصة بالدراسات الإنسانية.

ومع ذلك فالفريقان يستندان إلى فرضية تاريخية واحدة هي أن التطورات الحديثة في النقد لا تمت بصلة إلى التقليد السائد.

وكّل بدعة جديدة في الأسلوب تظهر وكأنها تستمد وجودها من مجموعة من الفرضيات الأساسية، جديدة، وكأن ميدان المعرفة هذا قد فقد أرضيته المشتركة، فعصرنا هذا إنما هو، للرجعيين والثوريين، عصر الخروج الجذري عن المعتقدات السابقة عن المعنى والقراءة والنقد الأدبي، ولابدّ للمرء أن يعتنق الثورة، أو أن يدافع عن التقليد السائد ضدها».‏

إن هذا الاستشهاد يوضح المشكلة، فكان هدف الكتاب المتواضع، كما يشير مؤلفه، هو إثارة الشك في الادعاء الذي يستند إليه كلا الفريقين والذي يؤكد الانقطاع التاريخي.

والحق، أن محاولة المؤلف في تبيان التطورات النظرية والنقدية التي سادت في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة قد تكشف عن الأرضية المشتركة التي استندت إليها المناهج الحداثية في البحث عن المعنى الأدبي منذ الظاهراتية إلى اليوم، ولكن هذه الأرضية المشتركة قد شاهت ملامحها في تلك الإجراءات غير الأدبية التي تجافي طبيعة النقد الأدبي.‏

انطلقت المشكلة حول المعنى الخاص بالأدب، الذي يبدو كأن له معنيين، بتعبير المؤلف، ينطوي كل منهما على نظرية للنتاج الأدبي تختلف عن الأخرى، وقد تكون نقيضتها، وعلى تطبيق للنقد يختلف عن الآخر.

ويمكن أن نجد أوضح مثال لذلك في الصراع بين بدهيتين مألوفتين عندنا للمعنى: المعنى على أنه مرتبط بالتاريخ يتحكم به قصد معين في لحظة معينة، والمعنى حقيقة ثابتة للنص، تتجسم في كلمة أو مجموعة من الكلمات يتجاوز معناها قصداً معيناً، ويمكن أن يفهمها في بنيتها كلّ فرد يحسن تلك اللغة.

ويظهر الصراع بين هاتين الفكرتين المتناقضتين الموجودتين معاً، بين «ما أعنيه أنا» و«ما تعنيه الكلمة»، ويتخذ أشكالاً متنوعة في النظريات التي مهدت لهذه الاتجاهات،أو رافقتها، فيظهر الصراع عادة في هيئة طرفي نقيض، كما في الفاعل ضد الموضوع، أو المثال ضد النظام، أو الأداء ضد القدرة، أو الكلام ضد اللغة، أو اللفظي ضد المعنوي، أو الحدث ضد البنية.‏

إن المسألة تدور حول القارئ والقصد، فثمة التباس قديم حول حجم القراءات التأويلية لكل نص في استخراج معناه الأدبي، وثمة التباس قديم حول مغالطة القصد في القراءة، هل هو قصد المؤلف أم قصد النص أم قصد القارئ؟

إن كّل قراءة تؤول قصدها بمعزل عن قصد المؤلف أو قصد النص أو بالاستناد إليهما معاً، وليس هناك قراءاتان متطابقتان بلا شك، ولا ينبغي أن نكرر القول حول طبيعة النقد التي ترى، فيما تراه، أنه ميدان من ميادين المعرفة يقوم على نظام متراكم للقواعد والقوانين تقع فيه جميع أمثلة التفسير، بما في ذلك تلك التي تعد نفسها خارجه.

على أنّ المشكلة في بحث المعنى الأدبي لا تتوجه مباشرة إلى نسقها المعرفي والتاريخي لتهتم بالمعنى الأدبي كما يتولد من خلال القراءة، بل تلجأ إلى إجراءات نقدية هي ضد لغة النقد وإجراءاته، فلا تعنى بعد ذلك بكيفية ظهور المعنى الأدبي من خلال القراءة إلى الوجود، أو مظاهر تجسيمه، أو صلته بالأشكال الأخرى للفعالية العقلية، أو قابليات امتلاكه معرفياً وجمالياً، أو إمكانيات تقديره وتثمينه، بل تنهك نفسها بطرائق وأدوات وإجراءات أبعدت الشغل النقدي عن طبيعته وعن قيم القارئ العادي لصالح «نخبة» مختلفة فيما بينها أيضاً، وفي إجراءاتها العصية على الإيصال غالباً.‏
أحدث أقدم

نموذج الاتصال