نجيب محفوظ لسان العرب في الحكاية.. القدرة على التعبير عن هموم الإنسان بصفة عامة على اختلاف زمانه ومكانه من منطلق محلى



في أدبنا العربي الحديث صوت سردي يتمتع بحضور في المكتبة العالمية يجعل منه علامة على القصة العربية هو نجيب محفوظ (1911-2007م) الذي بدأ في ممارسة نشاطه السردي منذ الثلث الأول من القرن العشرين مستعينا بدراسته للفلسفة التي نال عنها شهادة الليسانس في كلية الآداب جامعة القاهرة، وموظفا مادة واقعية ثرية كان محورها المجتمع المصري قديما وحديثا.. والكلام عن صاحب نوبل يأخذنا إلى المرحلة الأولى في كتابته للراوية ألا وهي المرحلة التاريخية الفرعونية، وخلالها أعطى للمكتبة السردية ثلاثة أعمال: "عبث الأقدار" و"رادوبيس" و"كفاح طيبة".. وتأليفه هذا النمط الذي اتخذ من المجتمع المصري القديم مادة لبناء روائي يقوم على الخيال في المقام الأول يعود إلى تأثره بالأديب الاسكتلندي والتر سكوت أحد رواد كتابة الرواية التاريخية في الغرب..
ولم يتوقف محفوظ عند هذا النمط فقد انتقل إلى مرحلة تالية هي كتابته للرواية الواقعية التي يندرج تحتها كثير من أعماله، منها على سبيل المثال: القاهرة الجديدة التي مثلت فيلما بعنوان القاهرة 30 ، خان الخليلي، زقاق المدق، الثلاثية (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، اللص والكلاب، ميرامار..
وقد كان للحارة المصرية وللشخصية التي تسكنها حضور في عوالم محفوظ، ويبدو أن نشأته في حي الحسين الشعبي وفي الجمالية قد ألقت بظلالها على إنتاجه؛ فظهر هذا جليا في اتخاذه الحارة إطارا مكانيا لبعض أحداث رواياته، ومن الشخصية التي تقطنها فاعلا صانعا ومحركا لتلك الأحداث.. وقد انعكس انتماء محفوظ للطبقة المتوسطة على تأليف ثلاثيته الشهيرة التي جعلت من المجتمع المصري في الفترة من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية محور أحداثها من خلال أسرة متوسطة الحال هي أسرة السيد أحمد عبد الجواد.. ولعل التركيز على هذه الطبقة هو في الأساس حيلة فنية أراد كاتبنا من خلالها أن تكون بمثابة موقع وسط تطل منه عين المبدع ومن ورائها عين المتلقي على واقع المجتمع المصري على اختلاف شرائحه في فترة زمنية محددة؛ فلا شك في أن الموقع الوسط يعطي للعين الناظرة قدرة على الرؤية في كل الاتجاهات بوصفها تشغل مركز الدائرة؛ لذا فلا عجب عندما تقرأ الثلاثية أن تجد فيها النقيضين يجتمعان في الشخصية المصرية عموما؛ فإذا نظرنا خارج نص محفوظ الروائي نجد أن الشخصية المصرية على الرغم من هيمنة المحتل الأجنبي عليها فإن ذلك لم يمنعها من أن تواصل نشاطها بحرية في الانفتاح على العالم الخارجي والأخذ من ثقافته، فكان عدد ليس بالقليل من أفراد الطبقة المتوسطة حملة لمشاعل التنوير في النصف الأول من القرن العشرين، أمثال: عباس العقاد، مصطفى لطفي المنفلوطي، عبد الرحمن شكري، إبراهيم عبد القادر المازني، مصطفى صادق الرافعي، طه حسين، أحمد زكي أبو شادي، توفيق الحكيم.. وغيرهم.
ومن الواضح أن نجيب محفوظ بهذه الرؤية قد حرص على أن يكون في موقع وسط شبه محايد بين تيارين احتدم بينهما صراع عنيف في معظم فترات القرن العشرين والقرن التاسع عشر السابق عليه: تيار يسمي أفراده أنفسهم بالمجددين الداعين للارتباط بالغرب وما فيه، وتيار محافظ قراءته للوافد الثقافي من عند الغرب لم تمنعه من التمسك بالقديم والارتباط الشديد به بوصف ذلك دفاعا عن الهوية، فجاءت روايات محفوظ الواقعية لتضعه في موقف العارض الواصف الذي يتظاهر بأنه لا ينحاز لجانب بعينه.
ويتمتع أدب نجيب محفوظ بقدرة على الخروج من نطاق المحلية الضيق ليصل إلى العالمية, وذلك نابع من قدرته على التعبير عن هموم الإنسان بصفة عامة على اختلاف زمانه ومكانه, لكن من منطلق محلى؛ فحارة نجيب محفوظ المصرية وشخصياته التي تؤدى أدوارها بأسماء عربية ومن خلال منطلقات تنتمي إلى البيئة الثقافية المحلية والإقليمية تتجاوز معانيها المباشرة لتصبح الحارة ومن فيها رمزا لكوكب الأرض الذي تعيش عليه الأسرة الإنسانية جميعها تنجز أفعالاً وتقيم علاقات فيما بينها, هكذا أراد الإنسان العالمي الساكن في روح نجيب محفوظ المبدعة أن يقول لنا في أعمال تتخذ من الحارة معادلا موضوعيا للتجربة الإنسانية العالمية أينما كانت.
وهذا الإنسان ذاته الذي أبدع أيما إبداع في رواية المكان يغزو رواية الزمان في "حديث الصباح والمساء" بصحبة أبطاله يزيد المصري " و" هدى" و" عزيز" و" الشيخ معاوية القليوبي" و"جليلة الطرابيشي".
إننا في هذا العمل أمام مجاز مرسل ـ إذا أفدنا من أحد مصطلحات علم البلاغة ـ لقد أطلقنا الجزء " الصباح والمساء " وأردنا الكل (الزمن/ الحياة), إن الصباح والمساء يشكلان يوما له بداية ونهاية, هذا اليوم هو صورة مصغرة لعمر الفرد .. ولعمر الحياة كلها..
والقارئ لهذا العمل يجد صاحبه قد قسمه إلى شخصيات مرتبة حسب حروف الهجائية العربية بدءاً من حرف الألف وشخصية " أحمد محمد إبراهيم " وانتهاء بحرف الياء وشخصية " يزيد المصري ".. والملاحظ على هذا الترتيب أنه لا يتماشى وترتيب زمن ظهور هذه الشخصيات؛ فنحن في " حديث الصباح والمساء" أمام أسرة مصرية كبيرة العدد تم تناولها من خلال خمسة أجيال بدءاً من بداية حكم محمد على .. حتى عقد الثمانينيات من القرن الماضي , أولها ظهوراً شخصية يزيد المصري التي عاشت فترة سقوط خورشيد باشا وتولي محمد على حكم مصر.. والجدير بالانتباه أن الأول من حيث ترتيب الزمن قد جاء آخراً في ترتيب الشخصيات داخل عالم الفن ..
نحن إذاً أمام أبجدية سردية تأتى بموازاة حقبة زمنية تعبر عن مصر الحديثة التي ولدت مع دخول الفرنسيين إلى مصر وبدأت في النمو مع حكم محمد على في القرن التاسع عشر ..
نحن إذاً أمام بناء قصصي يجمع في تقنياته بين فن القصة القصيرة وفن الرواية؛ فتحت كل حرف هجائي تستطيع أن تقرأ قصة قصيرة خاصة بالشخصية..
أما ما يجمعها بغيرها في الحروف الهجائية الأخرى فقد اعتمد الراوي عند نجيب محفوظ بدرجة أساسية على روابط بديهية منطقية معروفة لدى الجماعة الإنسانية بصفة عامة مثل : الأب , الأخ , العم , الخال , الابن , ابن العم , بنت العمة .. الخ..
من ثم يصير الحرف الهجائي في هذا العمل بمثابة مساحة سردية تحمل بداخلها قصة صغيرة أو أكثر لشخصية أو لعدد من الشخصيات لتتجمع كلها فى النهاية عند شجرة إنسانية واحدة هي " الأسرة " التي يأتي فى مقدمتها شخصية يزيد المصري الواقعة في آخر العمل مما يعطي للزمن شكلا دائريا في إشارة فنية واضحة بأن الأحداث ستعيد تشكيل نفسها من جديد, لكن في أزمنة جديدة وبشخصيات مختلفة بما يتفق تماما ورحلة الحياة القائمة على الحركة داخل الزمن..
إذاً فنحن من خلال هذه الأبجدية السردية أمام بنايات ثلاثة:
 بناء اللغة..
 بناء الحكاية..
 بناء الحياة
    وفلسفة الربط بينها تبدو واضحة؛ فلا حياة للذات الإنسانية المفطورة على التواصل بغير اللغة, والحياة فى جوهرها هى بناء مركب من آلاف الحكايات نعيشها بأنفسنا ونقرؤها أو نسمع عنها لنشبع حبا فطريا بداخلنا يعتمد على الحركة بحثا عن أنفسنا فى العالم من حولنا و عن الخفي والمجهول بالنسبة لنا, وتكتسب هذه الرحلة قيمتها بقدر ما تضيفه إلى رصيدنا المعرفي من خبرات..
يسكن كل من الأصفهاني ونجيب محفوظ؛ فكلاهما ينشد العالمية في عمله, الأصفهاني أراد أن يقدم ما يشبه سيرة إنسانية عامة برموز و شخصيات عربية بدأت بأبى قطيفة الشاعر, وقد اتخذت هذه السيرة من موضوع هيمن على الواقع الاجتماعي و الثقافي فى زمن الأصفهاني مادة لها ألا وهو الغناء, كذلك حاول نجيب محفوظ أن يصل بين أبجدية التاريخ و أبجدية اللغة من خلال هذا المجاز المرسل الحكائى الذي يحمل عنوان " حديث الصباح و المساء" لقد أطلق الجزء أسرة يزيد المصري التي عاشت في عالم الحكاية زمن مصر الحديثة و أراد الكل ممثلا في وجهة نظره تجاه الإنسان الموجود في هذا العالم الذي تحول إلى رموز أسكنها فضاءه الفني..
إن رواية نجيب محفوظ بناء مركب من مجموعة من الحكايات الصغيرة التي تتماسك دلاليا فيما بينها بفضل وحدة الأسرة ذات المعجم الواحد المكون من أب وأم وأخ وعم .. إلخ, فاستعان الراوي عند محفوظ إزاء هذا المعجم بمعجم آخر هو معجم اللغة المعتمد في تصميمه على حروف الهجاء..
    نجيب محفوظ في رواية الزمان ظل مخلصا لمدينته صانعة مجده الروائي.. فالرواية ابنة للمدينة وقديما اكتشف بديع الزمان تلك العلاقة السحرية بين المدينة والرواية حين كتب مقاماته التي نستطيع الاستمتاع بها بوصفها رواية مغامرات تكاد كل مغامرة فيها تدور في مدينة بعينها.
د.أحمد يحيي علي