نص ونقد: اكتشاف مصطلح.. فعل إنتاج القصة موضع الرؤية من خلال التشبيه التمثيلي



 نقرأ الفقرة الآتية من رواية "مسألة وقت".. ونرى كيف تتم لعبة التفصيل الحكائي:
"تذكر الترزي الذي كان يفصل عنده أبوه بنطلوناته وبدله. رآه يحيي وهو صغير يخط بالمارك الأبيض خطوطا تشكل ياقة الجاكتة. ثم أعاد تحديدها مرة أخرى بحيث صار "شكلا الياقة" متداخلين على القماش.
- وممكن نضيقها من هنا شوية.
وخط خطا كأنه يزحزح قليلا حد الشكل الثاني .
- أنا شايف دي أحسن.
لم يستطع أبوه أن يرى من بين الخطوط المتناسلة من بعضها أية الياقات أفضل, فمسح الترزي ما خطه ورسم الشكل الذي يفضله, فقال أبوه:
- الشكل اللي قبله كان كويس.
لم يفهم الترزي ما الذي يقصده فاضطر لرسم الأشكال متجاورة.
- دي؟
قالها يحيي وكفه الصغيرة تصل بالكاد إلى الترابيزة وتشير إلى فراغ بين شكلين, اختار أبوه واحدا منهما, بينما الترزي حمل يحيي على ذراعه حيث اتضحت في عينيه كل الأشكال وأعجبته الخطوط البيضاء على القماش الأسود, وسأله الترزي "دي ولا دي؟" فصمت يحيي مفاجأة من السؤال ومن نظراتهما المتجهة إليه, وقبل أن يجيب يحيي أنزله الترزي على الأرض ليكمل اتفاقه مع أبيه."-ص50-51
لم يقف الأمر عند هذا الحد ففي طريق العودة: "أحس يحيي بوجود شيء بين كفه وكف أبيه. تأكد أنه ليس نقودا ولا منديلا, ربما زجاجة "قطرة العين". وعند اقترابهما من البيت أفلت أبوه كف يحيي:
- خد وما تشدش القماش تاني.
وأعطاه المارك الذي كان الترزي يخط به, فنظر يحيي إلى أبيه منتظرا أن يشرح له لماذا جلب له المارك الذي لم يطلبه ولم يشد القماش بسببه.
- الياقة التانية أحسن.
- معاك المارك العب بيه زي ما انت عايز.
رسم يحيي خطوطا متداخلة على بوابة البيت الحديدية.
- شكلها زي كده
لم ينظر أبوه إلى الخطوط, صعد السلم وهو يعد يحيي بشراء سبورة صغيرة ليرسم عليها ما يريد."-ص51-52
 نفهم من النص معنى "القص". إن القصة كالزي الجميل.. والزي يأتي من تصور ثم رسم ثم مضاهاة الرسم بالمادة وتحديد القياسات وضبط الهيئة وإحكام الشكل النهائي قبل التغليف والتسويق والتداول. ولا بد من استدعاء "العميل/ المستهلك" أثناء عملية الإنتاج لمعرفة مدى تطابق ما يصنعه القائم بالتفصيل مع احتياجات المستهلك وذوقه.. لأن المستهلك في حقيقة الأمر هو المنتج الذي يدفع تكاليف العمل. لا يمكن أن يفرض الصانع تصوراته على الذوق السائد إذ لا بد من التفاعل بين الطرفين. وعملية الصناعة تمر بمراحل متتابعة فيها التخيل والتصور وتحديد الصورة في تكوين قياسي وإنتاج أجزاء ثم ربطها معا..
 هنا نفهم مصطلح "السرد" الذي يعني في المعجم العربي إحكام ربط القطع التي يتكون منها "الدرع" لكي ينتهي في غاية الإتقان, فأصل السرد ثقب المعادن والجلود وضم القطع وربطها لتؤدي وظيفتها مثلما يحدث في تفصيل "الدروع" وقد جاء في معجم "لسان العرب" لابن منظور والسرد: الثقب. والمسرودة الدرع المثقوبة.. والسرد الحلق.. وقوله –عز وجل- "وقدّر في السرد" قيل هو ألا يجعل المسمار غليظا والثقب دقيقا فيفصم الحلق.. ولا يجعل المسمار دقيقا والثقب واسعا فيتقلقل أو ينخلع أو يتقصف.. اجعله على القصد وقدر الحاجة".
    إن العلاقة أصبحت في غاية الوضوح بين "القص" و"السرد" فالقص قطع والسرد ثقب وتركيب وبذلك نفهم العلاقة بين المصطلحين بالعودة إلى الجذور المعجمية لكل منهما وفهم دلالة كل كلمة وعلاقتها بدلالة الكلمة الأخرى التي ارتبطت بها في سياق اصطلاحي. أدرك منتصر القفاش المبدع في سرده مفهوم القص ووضعه في مقطعه القصصي السابق الذي يعد نصا في "الميتاقصة" أو "القص الشارح" أو "القص بصدد القص" أو "السرد بصدد السرد" فالنص القصصي الذي قرأناه لمنتصر من "مسألة وقت" يفسر لنا معنى "القص" ويضع أمامنا فعل إنتاج القصة موضع الرؤية من خلال التشبيه التمثيلي.
 إن القصة عند منتصر –كما هي عند المبدعين أصحاب الرؤية- لا تقول مباشرة وإنما تأخذنا إلى برزخ نتأمل من خلاله عالمين فنكتشف من خلالهما عالما جديدا.
منتصر في إبداعه السردي يقيم جسرا بين ما يراه في أعماقه وما سيراه الآخر في الكلمات.. ولأن القاص يرى أشياء كثيرة متداخلة ولأنه لا يستطيع نقلها كما تتدافع في نفسه وتتراءى له فإنه يقوم بعملية "القص" وقد برع منتصر بدرجة فائقة حين اتخذ من مفهوم "التفصيل" نموذجا يشرح من خلاله عملية إنتاج القصة فقد التقط الكاتب هنا بوعي شديد الجوهر الدلالي لمادة "قص" في المعجم العربي العام وكيف اتخذ منها العقل الجمعي مصطلحا ثقافيا.