نعني يالوعي الغائب هنا أن يكتب الأديب أو الشاعر في ظل تأثر قسري يجعل المسافة بينه وبين الابداع في ظل الذات بعيدة، إذ لاوقت لديه لاستكناه ذاته.
ونحن إذ نعنون الشعر الجزائري بهذا العنوان فإننا ندري أن الحكم شائك ومعقد، ولذلك فمن صائب المنهجية أن نبين للقارئ الكريم أننا نعني بالشعر الجزائري هنا ذلك الذي كتب في السبعينيات بخاصة، والذي خضع فيه أصحابه لمتغيرات أيديولوجية وثقافية معروفة قادتهم إلى الإبداع في ظلها.
وتبعا لهذا فاننا نستثني جملة من الشعراء الشيوخ مثل أحمد سحنون ومحمد العيد ومفدي زكريا... هؤلاء الذين كتبوا في ظل الذات العربية الإسلامية الواعية كما نستثني شعراء كتبوا في ظل وعي ناقص سخروا فيه أشعارهم لقضية اللغة العربية مجزأة فاقدة لروحها (الإسلام)، ومن هؤلاء محمد أبو القاسم خمار ومحمد الأخضر عبد القادر السائحي...
ونعود إلى الموضوع لنقول: إن شعراء السبعينات المؤدلجين اشتراكيا أو يساريا قد كتبوا في ظل وعي غائب دعمه غياب وعي الدولة نفسها التي بدأت تشق حياتها بعيدا عن زمن الشهداء.
لقد حاول هؤلاء أن يستوعبوا شعر الحداثة المؤيد بالتعامل مع التراث الخاص، وأن يكتبوا في ظل تأثر واضح بالمشرق العربي، أو لنقل في ظل النقل الحرفي في أحايين كثيرة كما عبر عن ذلك أحد شعراء هذه الفترة بقوله: (يبدو لي أننا منذ السبعينات على الخصوص قد كتبنا شعرا عربيا مشرقيا، ولم نكتب شعرا جزائريا عربيا... لأن الأسماء التي تتصدر القائمة الشعرية في الجزائر: رزاقي، زتيلي، حمدي، بحري، ليست في الواقع إلا صورا مصغرة لأسماء لها وزنها في الساحة الشعرية العربية).
والقول له مايبرره، يقول أحمد حمدي في قصيدته "قائمة المغضوب عليهم":
أول الشارع والقهوة والسوق المحلي
وحليب المرأة العاقر
في الفم
وفي القلب جراح العانس الأخت
وأحلام الرفاق الصامدين
كلهم في أول الشارع كانوا يعرفوني
والأسطر دالة على اتكاء معجمي مجسد في لغة بدر شاكر السياب المؤيدة بالسوق والعوانس والمومسات…وهي لغة ذات بنيات معجمية حداثية منقولة جسدها الطارئ الأيديولوجي والأخلاقي المؤسس لسلطة المجتمع الحداثي أو المعادل لزمن الشهداء.
وتبعا لهذا التأثير فإننا نأتي إلى الحديث عن شعر هؤلاء الشعراء من خلال ملاحظات خاصة تجعلنا نتداخل مع الحداثة عندهم بحذر، فهم لم يشهدوا الحداثة التي شهدها أدونيس وجماعته، كما لم تشهد جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية نفسها حدة الحداثة الموجودة عند المشارقة (أهل الشام بخاصة) ناهيك عن أن تشهد، أو تعاين الحداثة الغربية.
فالأمر- إذن- يتعلق بتأثير مشرقي كتب هؤلاء الشعراء في ظله تحت تيارين عنونهما الدكتور محمد ناصر"بالتعقيد والتجسيد"، أما تيار التعقيد (فيغلب على بعض الشعراء المتأثرين تأثرا واضحا بمدرسة أدونيس وأنسي الحاج، ويوسف الخال... ومنهم عمر أزراج وأحمد حمدي، وعبد العالي وينضوي تحت تيار التجسيد أغلبية الشعراء الجزائريين المتأثرين بشعر الرواد من أمثال بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وصلاح عبد الصبور، ونزار قباني).
أما الملاحظات فتكمن في الآتي:
1- محاولة التجديد في قاموس اللغة العربية وذلك بتفجيرها وجعلها ملائمة للرؤى الفنية والأخلاقية والفكرية التي تتلاءم مع مذهب التحديث، فاللغة يجب أن (تصبح لغة عنيفة حطمت سلاسلها، وانطلقت حرة تحطم كل ماتراه من سلاسل أو رموز لهذه السلاسل…لغة ضدية، ضد المؤسسة، ضد العادة، ضد البنى كلها الذهنية والبلاغية والإرثية والدينية، لغة بنوة بلا أبوة).
وفي ظل هذه الملاءمة الفكرية والفنية يقول سليمان جوادي:
جوعان وآكل من زاد المتنبي في الأضحى
أبول على النعمة
وألقن شيخ المسجد أشعارا تطفح بالحكمة
أشتاق
أجامع مومسة
يحنو الإبداع لها
؟؟؟؟
والبشر
إن هذا المنحى الشعري إنما يعود إلى حالة من الإدراك الحسي المنفلت القائم على تفتيت تماسك التجربة التي يجب أن تخضع لهوية الضد التي استعملها الشاعر بصورة مبالغ فيها.
2- تعتمد الغموض الذي نقرأه في أشعار أزراج عمر وأحمد حمدي، هذه الأشعار التي تستقي من المدرسة الأدونيسية بعض (المفارقات الاستعارية والرموز الضدية والثنائيات النافية لبعضها).
كما تأخذ من الرمزية والسريالية بعض تعابيرها وصورها الغارقة في الأحلام، يقول حمري بحري في قصيدة "ماذنب المسمار ياخشبة":
أتدحرج بين الحلم وبين سلالم ذي العقبة
والحزن عميق
والجرح عميق والحلم دليل طريق
3- القراءة الانتقائية للتراث وفق المكون الأيديولوجي الذي يملي عليهم مسبقا مجموعة من البنى الفكرية التي لايجوز لهم أن يخرجوا عنها، ويمكننا أن نقرأ ذلك في قصيدة "أبي ذر الغفاري" لعبد العالي رزاقي التي يتعامل فيها مع التراث من خلال تداخل فني وفكري كثيف ومتناقض أحيانا فنحن نجد فيها الصلب وأبا ذر الغفاري وعثمان ومعاوية والدم الأحمر، يقول:
معاوية يوزع عطفه والسيف في الغمد
وطفل في الشوارع يصرخ
ابتعدوا
أبو ذر يجوب الشام مصلوبا
على قمصان عثمان
ويبحر في التسكع آخر الموتى
ويكتب رقمه في الصفحة الأولى
أبو ذر.. دم ..
4- السخرية والتهكم بالمقدس، ويكمن ذلك في مجموعة من التعابير التي تتعارض مع معنى التنزيه الواجب لله سبحانه وتعالى، ويكون سليمان جوادي النموذج السيء في هذا المجال (فهو يستخدم أسلوبا جريئا في النيل من الذات الالهية، يعبر من خلاله عن غضبه العارم، وسبه لكل القيم والمواصفات الاجتماعية والدينية...).
أشوه وجه الارض
أشوه وجه...؟؟
وأشرب خمرا في أقداح فضية.
وخلاصة هذه الحداثة المتداخلة مع تراث مشوش أنها آلت بأصحابها إلى الغيبوبة الفنية والفكرية حين لم يستطيعوا أن يؤسسوا لجيل مبدع ذي خصوصيات حضارية يأتي من بعدهم، بل على العكس من هذا.
فقد ساعد هؤلاء على زرع الريبة في عقول المتلقين، وقد حدث هذا حين مارس السيكوسوسيولوجي الشعبي في أحايين كثيرة عزوفا عن مكون إبداعي لم يشارك في صنعه، وكذلك كان عزوف الشعراء الشباب المبدعين الآتين من بعدهم - كما سنرى - حين تعاملوا مع إنتاجهم الشعري من خلال الرفض والقطيعة.
التسميات
دراسات شعرية