الميتامسرح في إطار استراتيجية الارتجال.. استلهام بعض مظاهر الحداثة كما تجسدت في التجربة المسرحية الغربية

شكل الارتجال إطارا آخر للممارسة الميتامسرحية في النص الدرامي العربي، وذلك من خلال رؤية تجريبية تحاول استلهام بعض مظاهره الحداثية كما تجسدت في التجربة المسرحية الغربية، ومنها على الخصوص: صيغة المرتجلة، وصيغة التأليف الجماعي المرتجل.

والارتجال - كما هو معلوم - تقنية مسرحية تقوم على أساس الإنجاز الآني لسلوكات وخطابات ومواقف غير منتظرة، ولا متوقعة، وغير خاضعة لإعداد قبلي في الغالب، أو مرتبطة بخطاطة عامة سابقة، كما هو الشأن في الكوميديا المرتجلة. بهذا المعنى، تم توظيف الارتجال في المسرح الغربي، وبصيغ محاكية له تم استثماره في المسرح العربي.

بيد أن هنالك اختلافا بينا في طبيعة الخلفية المتحكمة في كلا الاستعمالين. فالارتجال، في الغرب، ترجمة لتوجه عام مرتبط بمستلزمات الحداثة من جهة، وبانفتاح الممارسة المسرحية على العلوم الإنسانية المعاصرة وعلى رأسها الأنثروبولوجيا، من جهة ثانية.

وفي ضوء هذه المعطيات، نفهم عودة المسرح الغربي مع مطلع هذا القرن إلى صيغة مسرحية عتيقة هي الكوميديا المرتجلة، وذلك في سياق ظاهرة عامة ميزت هذا المسرح هي ظاهرة "العودة إلى الأصول".

فالكوميديا المرتجلة تؤدي، في هذا السياق، "وظيفة مزدوجة: الأولى ك( ميثا) وفردوس مفقود بالنسبة لمسرح يبحث عن أصوله؛ والثانية كنمط تتجلى فيه خصائص أسلوب مسرحي كانت تبدو إشكالية ومتناقضة عن طريق الممارسة".

أما في المسرح العربي، فإن استحكام هاجس التجريب المسرحي أفرغ تقنية الارتجال من محتواها الأنثربولوجي، وقصر مظهرها الحداثي على التقنية أو الأسلوب المسرحي. وعليه، لا يمكننا أن نسند نفس الأبعاد التي اتخذها الارتجال الغربي لمسرحنا العربي.

فالمسرح الغربي وضع الارتجال في صلب الإشكالية الوجودية المتصلة بثنائية الفردي - الجماعي، أو الذات - الآخر، كما يؤكد ذلك ميشال برنارد Michel Bernard الذي يرى أن تقنية الارتجال المسرحي "هي لعبة دقيقة لفوضى مرئية، وإلا فهي قطيعة ظاهرية لنظام يتم فضحه كنظام مصطنع وقمعي من أجل تحقيق انبثاق وتطور نظام يبدو طبيعيا ومحررا.
لذلك، فإن كل دفاع عن الارتجال المسرحي بإمكانه أن يأخذ هنا - بعد أن نعكس معناه - شكل "مدح للفوضى" المسرحية... وفي هذه الحالة، فإن الفوضى لا تعني إطلاقا تحطيم الذات أو استحالة حياة باطنية، وإنما تعني، على العكس من ذلك، تحقيق الكينونة وتدفق ثورة الذات المتوارية".

فإذا كان تحقيق الكينونة وثورة الذات قد شكلا القاعدة الفلسفية للارتجال في الغرب، فإنهما اعتبرا أيضا سندا لرؤية إيديولوجية تقوم على خرق النظام المؤسس، وتقويض سلطة الكتابة بما هي اختزال للكائن وتسييج لحريته وتعويضها بسلطة الجسد الأكثر اتصالا للحيوي واليومي، والأكثر تمردا على السلطة والنظام.

ولعل هذا الارتباط بين الأنطولوجي والإيديولوجي في الارتجال المسرحي هو الذي يوضحه ميشال برنار بشكل مفصل  قائلا: "وإذا كان مفهوم التعبير - كما حاولنا أن نشير إلى ذلك - يتجلى على مستوى الخطاب كتصنع، وكزخرف لنسق يهدم العلاقة من ذات نفسها، وإذا كان، بعبارة أخرى، يتجلى كطريقة لتأكيد وجود قوة تعمل على تساميه أو انتفائه من خلال عودة نهائية إلى جانب من التطابق، أو اندماج مع الذات، أو حضور أنطولوجي أساسي؛ إذا كان مفهوم التعبير كذلك، فإنه من البديهي أن تقنية الارتجال في المسرح تطرح نفسها كفرصة ممتازة، بل وأبعد من ذلك كطريق حقيقي لعودة من هذا القبيل، وذلك بقدر ما تعلن عن نفسها كتمرد بالنسبة للنص الرئيسي وكحرية إنجاز بالنسبة لتعاليم تصور ما، وكنزوة جسد ناطق، أو غير ناطق يخرق قانون الكتابة، أو بصفة أساسية كقطيعة اندفاعية بدائية مع كل نظام مفروض للإشارات.
وهكذا فإننا نفهم الدور الإيديولوجي العام الذي تلعبه تلك التقنية أو ذلك التمرين في نطاق الممارسات والخطابات المعاصرة للتعبير الجسدي التي توجه إلى رجل الشارع والدنيوي، كما هي موجهة إلى الممثل والمنشط المستقبلي".

لا يمكننا، إذن، أن نتصور وجود ممارسة ارتجالية بهذه الأبعاد في سياق مسرح عربي هاجسه الأول هو التجريب الذي جعل هذه الممارسة تبقى رهينة إطار النص المسرحي أساسا.

فسواء تعلق الأمر بصيغة المرتجلة أو بصيغة التأليف الجماعي، فإن الهدف يبقى هو تجريب طرق جديدة في الكتابة يساهم فيها الممثل كما هو الشأن في الصيغة الأولى، ويدعمها المتفرج كما هو الأمر في الصيغة الثانية. وبهذا، شكل النص المسرحي العربي القائم على أساس الارتجال دعامة أخرى للممارسة الميتامسرحية التجريبية.

ويمكننا أن نمثل لهذا الاقتران بين الميتامسرح والارتجال العربي بنموذجين: تميز أحدهما ببلورة تجربة المرتجلة وهو نموذج محمد الكغاط من خلال مسرحية "المرتجلة الجديدة "، في حين حاول الثاني إقامة تجربة في التأليف الجماعي المرتجل وهو وليد إخلاصي من خلال مسرحية " عجبا إنهم يتفرجون".
أحدث أقدم

نموذج الاتصال