"مرتجلة فرساي" أو صراع "التمثيل" في المسرح.. المسرح موجود في كل شيء لدى موليير باعتباره تجويفا للعب ومسرحا داخل مسرح



عندمـا كتـب مـولييـر مسـرحيتـه "مـدرسة النساء" ووجهت بنقـد لاذع بسبب خشونتها وخطابها الواقعي الحاد.

وقد كان هذا النقد فاتحة لمعركة قوية بين موليير وخصومه، استهلها هو بكتابة رد أول تمثل في مسرحيته "نقد مدرسة النساء" التي استغلها لتضمين مواقفه من الدراماتورجيا ومن بعض المقولات التي كانت سائدة بخصوص مفهوم المسرح، ومنها على الخصوص مقولة اللياقة Bienséance.

في سياق هذا الجدل الذي اتخذ طابعا جماليا رغم كونه يضمر بعدا سياسيا عميقا، تندرج "مرتجلة فرساي L'Impromptu de Versailles" التي تعد بمثابة الرد النهائي والحاسم على خصوم موليير.

ولعل ما جعلها أكثر حسما وفعالية هو كونها كتبت بأمر من الملك.
فقد حاول موليير تصريف هذه السلطة السياسية لإسكات مشنعيه، بدءا من العنوان نفسه، حيث وسمها بمرتجلة "فرساي" نسبة إلى قصر فرساي الملكي.

إن هذا المعطى السياسي لم يدمغ المسرحية، مع ذلك، بطابع الخطابات السياسية المباشرة، ذلك أن موليير كتب المرتجلة من منطلق رجل المهنة الذي يمارس الكتابة والإخراج والتمثيل.

لذا، فإذا كان اهتمامه قد انصب على المفهوم العام للفن الدرامي سابقا، فإنه جعل من المرتجلة وسيلة لنقد تصورات خصومه من ممثلي فندق بورجوني Borgogne الكبار، حول فن الممثل وطرق التشخيص والأداء، بل إن موليير تجاوز الرد على الانتقادات و"صاغ نظرية للكوميديا".

تجري أحداث المسرحية في قاعة الكوميديا في قصر فرساي، حيث تبدأ بدعوة موليير للممثلين الذين يعملون في فرقته إلى البدء في التداريب.

ونظرا لتقاعسهم وتذرعهم بعدم معرفة أدوارهم وصعوبة تذكر حواراتهم، نعتهم موليير ب" الحيوانات الغريبة "، وعبر عن تخوفه من الفشل، لاسيما وأن المسرحية سوف تعرض أمام الملك الذي أمر بكتابتها:
"الآنسة بيجار: مادام ذلك يخيفك، فقد كان عليك أن تأخذ احتياطاتك بشكل جيد، وألا تلتزم  بثمانية أيام فقط كي تقوم بما قمت به.
مـوليير: إنها وسيلة للدفاع عن نفسي لاسيما وأن ملكا أمرني بذلك".

 إن الأهم بالنسبة لموليير ليس هو الإجادة، وإنما الامتثال لأوامر الملك. لذا، فهو يراهن على قدرة الممثلين على الارتجال اعتمادا على ذكائهم.

من ثم، نلاحظ أنه عندما سئل عن الأدوار، أجاب بأن الأمر يتعلق بالنثر Prose.
وعليه، فالارتجال ممكن، كما أن الموضوع معروف ويتعلق بالنقد الذي وجه لموليير وفرقته.

وانطلاقا من تداخل مستويات اللعب في المسرحية، يبدأ موليير نفسه بتقديم الطريقة التي ينبغي أن تؤدى بها بعض الحوارات والمقاطع مشيرا إلى أداء ممثلي فندق بورجوني، ومستغلا ذلك لإبداء رأيه في بعض الأدوار الكوميدية كدور المركيزLe Marquis.

ويتخلل  المشاهد والحوارات كشف عن معاناة موليير مع خصومه وإبراز لوظيفة الكوميديا ولمختلف الموضوعات الاجتماعية التي يمكنها أن تتحول إلى موضوعات كوميدية. ويتم استحضار المسرحية التي كتبت ضد موليير بعنوان "صورة الرسام Le Portrait du Peintre".

لكن موليير يعبر عن عدم رغبته في اختيار العنف والتجريح وصنع الخطابات ضد أعدائه، ويصر على استكمال التدريب على عمله الذي لم يتمكن من تقديمه في الوقت المناسب ليؤجله، بعد إذن الملك، إلى وقت لاحق.

عندما نتأمل هذه الأحداث، نلاحظ أن اللعب في المسرحية يدور ضمن مستويين متمايزين ومتداخلين في آن واحد.

يتعلق المستوى الأول بموليير المخرج الذي يرغب في ارتجال مسرحية كوميدية مع فرقته. ويتعلق الثاني بالانخراط الفعلي في الارتجال دون إعلان مسبق، وإنجاز كوميديا ساخرة موضوعها أعداء موليير وانتقاداتهم لتجربته المسرحية.

إن هذا الوضع يجعلنا أمام مسرحية يمكن وسمها ب"كوميديا الممثلين Comédie des comédiens" أو "كوميديا داخل كوميديا".

انسجاما مع هذا الإجراء القائم على المضاعفة المسرحية، تطرح المرتجلة موضوعات ذات صلة بالكوميديا نفسها وبطرق أدائها.

ويمكن التمييز، في هذا الإطار، بين القضايا التالية:
1- الكوميديا كنوع درامي.
2- أسس العمل المسرحي.
3- التشخيص أو فن التمثيل.

 لقد سبقت الإشارة إلى أن موليير حاول صياغة نظرية للكوميديا في مرتجلته.
ولعل من ملامح ذلك وقوفه عند بعض الأدوار الكوميدية، كدور المركيز:
"موليير: المركيز، اليوم، هو الممتع في الكوميديا.
وما دمنا نرى دائما في الكوميديات القديمة تابعا هازلا يضحك السامعين، فإنه يلزم أيضا في كل مسرحياتنا الحالية وجود مركيزمثير للسخرية يسلي الفرقة".

 كما وقف أيضا عند بعض الأنماط البشرية التي يتعين اتخاذها موضوعا للسخرية والنقد في الكوميديا.

وموازاة مع ذلك، حاول موليير إبراز وظيفة الكوميديا من خلال تبديد سوء الفهم الذي يحيط بأعماله الكوميدية، والذي رسخه خصومه الذين يبحثون دائما عن تطابق بين أنماطه البشرية المتخيلة وبعض النماذج الحية الموجودة في الواقع، متناسين أنه:
"بريكور: مادامت وظيفة الكوميديا هي تمثيل عيوب الناس كلها بصفة عامة، وخصوصا منهم ناس قرننا، فإنه يستحيل على موليير أن يتحدث عن خاصية لا تمس أحدا ما في العالم.

ومادامت اتهامات الخصوم قد انصبت أيضا على طريقة عمل موليير باعتباره رجل مسرح يجمع بين الكتابة والاخراج والتمثيل، فإن المرتجلة تنتقد بدورها عمل كورناي باعتباره أحد الخصوم، أو بعبارة نيشي الأكثر دقة فإنها "تفكك déboulonne  كورناي" انطلاقا من موقع يضفي أكبر نسبة من الموضوعية على هذا التفكيك، وهو موقع رجل المهنة العارف بأسرارها.

في مقابل هذا، ترسم المرتجلة أسس العمل المسرحي عند موليير وهي: الحرص على انسجام الفرقة وحرية الممثلين وحقهم في إبداء الرأي والاعتراض والرغبة في خلق مناخ ديمقراطي تتراجع فيه سلطة المخرج لصالح العمل الجماعي البناء.

وحرص موليير على هذه القيم، لم يكن الهدف منه سوى الإشارة غير المباشرة إلى القيم السياسية التي يقوم عليها الحكم.

لذا، يمكن القول "إن مرتجلة فرساي فن للحكـم بشكـل مصغـر، لا تقـدم نفسهـا باعتبـارها درسـا يعطـى للملك بأسلـوب
كورناي التقي، وإنما باعتبارها مرآة للسلوك الملكي".

وانسجاما مع السمة المميزة للمرتجلة، باعتبارها "كوميديا ممثلين"، شكل موضوع التشخيص وأداء الممثل محورا أساسيا في المسرحية، حيث يلاحظ أن موليير الذي يقوم بدور المخرج يوجه أعضاء الفرقة للكيفية التي ينبغي اعتمادها في أداء مقاطع معينة، مع مراعاة التوزيع الصحيح للأدوار والتنصيص على إمكانية الارتجال انطلاقا من النص المكتوب.

كل هذه الموضوعات الممسرحة تبين اعتماد "مرتجلة فرساي" على إجراء ميتامسرحي أساسي  هو الموضوعاتية الذاتية.

علاوة على هذا، فموليير المؤلف يصبح شخصية أساسية في المرتجلة ينخرط في نسيج الأحداث ويبدي آراءه من موقع المؤلف - الملحمي.

وقد اختار لهذا العرض الذاتي قالبا نوعيا وجه مرتجلته في اتجاه النقد اللاذع والساخر هو القالب الكوميدي الذي استعمل هنا بكيفية تقوم على المضاعفة المسرحية.

والملاحظ أن المرتجلة - من هذه الزاوية - منسجمة مع التوجه الكوميدي العام لدى موليير، هذا التوجه الذي أبرز كورفان مكوناته قائلا "المسرح موجود في كل شيء لدى موليير باعتباره تجويفا للعب ومسرحا داخل مسرح؛ موجود في إدماج مظاهر خداعة تتجه من مسخ مكشوف للشخصيات (من ماسكاريل إلى سكابان ومن إلفير إلى كوفييل) إلى طعن معمم في الكذب: المجتمع باعتباره مسرحا (كاره البشر)، والعالم باعتباره مسرحا (طارتوف، المريض بالوهم). الكل قناع والكل مقنع.

ويظهر الطابع الشخصي لموليير أمام هذا التصور المألوف لدى شكسبير وكورناي، في الرغبة في إزالة الأقنعة وجعلها جميعها مصدر اللذة الكوميدية.

يتعلق الأمر، حقيقة، بمسرح ضد مسرح، لكنه يتم بواسطة المسرح. هذه هي المقولة المفارقة التي تجعل من موليير الحكيم والمهرج في آن واحد".

فإذا نظرنا إلى المرتجلة في ضوء هذه التحديدات، نلاحظ أنها تعكسها في بعديها  اللعبي المتمثل في التجويف المسرحي، والنقدي المتمثل في الكشف عن أقنعة ممارسات مسرحية وسياسية أخرى. ولعل هذا ما يجعل من "مرتجلة فرساي" مسرحا داخل مسرح، ومسرحا ضد مسرح، في آن واحد.

إن هذا البعد المزدوج يملي علينا ربط الميتامسرح في المرتجلة بما هو ذاتي وموضوعي في آن واحد. فالمرتجلة، من الناحية الذاتية، ترسم مسارا سيرذاتيا متصلا بجزء من الحياة الأدبية لموليير نفسه، كما تلقي، من الناحية الموضوعية، الضوء على امتدادات الخطاب المسرحي داخل فضاءات سياسية.

فليس من قبيل الصدفة أن يمسرح موليير ذاته ويجعل منها شخصية أساسية في مرتجلة يؤديها بنفسه.
إنه يؤرخ بذلك لتجربته المسرحية في فترة حاسمة من مساره المسرحي عرفت صراعا حادا بينه وبين خصومه.

فمرتجلة موليير تمسرح التاريخ الكوميدي لهذا الرجل من خلال سانكرونية محددة، تبدأ ب"مدرسة النساء" وتنتهي ب"مرتجلة فرساي"، كما تبرز ما تخلل هذه الفترة من تناقض في المنظورات الجمالية وصراع في الأفكار السياسية مع تسليط الضوء، بطبيعة الحال، على الموقف الشخصي لموليير من كل ذلك.

 إن هذا الجانب السيرذاتي الذي جعل من المرتجلة سيرة مسرحية جزئية يصب منطقيا في الجانب السياسي، لاسيما وأن المسرحية تستحضر علاقة موليير بلويس الرابع عشر.
وتقريب المسرح من قصر فرساي هو، في الواقع، محاولة لمد جسور التواصل بين الشعب والملك.

بالإضافة إلى هذا، فإن إقامة العمل المسرحي على أساس قيم الارتجال والحرية والانسجام والديمقراطية، لم يكن سوى صياغة رمزية للقيم التي يقوم عليها الملك، والتي جعل موليير نفسه خادما ومروجا لها.
إن المرتجلة صياغة مسرحية للتشابه القائم بين عالم المسرح وعالم السياسة.