عناصر السيميولوجيا:
تُعدّ السيميولوجيا، أو علم العلامات، مجالًا دراسيًا حيويًا يسعى إلى فهم كيفية إنتاج المعنى وتفسيره داخل الثقافات المختلفة. إنها تُقدم لنا أدوات تحليلية لفهم اللغة، الصور، والإيماءات، وكل ما يمكن أن يحمل دلالة. تقوم السيميولوجيا على تحليل العناصر الأساسية التي تُشكل أي نظام علاماتي، وقد تطور فهم هذه العناصر بشكل كبير على يد رواد هذا العلم ومن تبعهم من مفكرين.
العناصر الأساسية للعلامة في السيميولوجيا التقليدية:
في بداية نشأة السيميولوجيا، حدد رواد مثل تشارلز ساندرز بيرس وفرديناند دي سوسير ثلاث فئات رئيسية للعلامات، كل منها يتميز بنوع علاقة مختلفة بين الدال (Signifier) والمدلول (Signified). الدال هو الشكل المادي للعلامة (مثل الكلمة أو الصورة)، والمدلول هو المفهوم أو الفكرة التي تشير إليها العلامة.
1. العلامة السببية (Index):
تتميز العلاقة في العلامة السببية بأنها علاقة سببية أو علّية مباشرة بين الدال والمدلول. بمعنى آخر، وجود الدال يشير بشكل مباشر إلى وجود المدلول كنتيجة طبيعية أو سبب له.
- مثال: الدخان (الدال) هو علامة سببية على وجود النار (المدلول). لا يمكن أن يوجد دخان بدون نار، فالدخان هو نتيجة طبيعية ومرئية لعملية الاحتراق.
- مثال آخر: الطرق على الباب (الدال) هو علامة سببية على وجود شخص (المدلول) خلف الباب أو يرغب في الدخول. الطرق هو فعل مادي ناتج عن وجود فاعل.
- مثال إضافي: ارتفاع درجة الحرارة في جسم الإنسان هو علامة سببية على وجود مرض أو التهاب.
2. المثل أو الأيقونة (Icon):
تقوم العلاقة في المثل أو الأيقونة على التشابه المباشر بين الدال والمدلول. فالدال هنا يُشبه المدلول في شكله أو صفاته الجوهرية.
- مثال: الرسم (الدال) هو مثل أو أيقونة لـالشيء المرسوم (المدلول). اللوحة أو الصورة الفوتوغرافية تُحاكي الواقع بصريًا.
- مثال آخر: التمثال (الدال) هو مثل أو أيقونة لـالشخص أو الكائن المنحوت (المدلول). هو تجسيد ثلاثي الأبعاد يُشبه الكائن الحقيقي.
- مثال إضافي: الخرائط أو الرسوم البيانية التي تُحاكي التضاريس أو البيانات بشكل مباشر.
3. الإشارة أو الرمز (Sign/Symbol):
تُعتبر العلاقة في الإشارة أو الرمز اعتباطية واتفاقية بحتة. لا يوجد أي تشابه طبيعي أو علاقة سببية بين الدال والمدلول. بدلًا من ذلك، يتم تأسيس المعنى من خلال اتفاق اجتماعي أو ثقافي أو تعلم مسبق.
- تتكون الإشارة من:
- الدال (Signifier): وهو الصورة الصوتية أو الشكل المادي للعلامة (مثلاً، صوت كلمة "شجرة" أو حروفها المكتوبة).
- المدلول (Signified): وهو التصور أو المفهوم الذهني الذي يرتبط بتلك الصورة الصوتية (المفهوم الذهني لـ "شجرة" ككائن حي ذي ساق وفروع وأوراق).
- مثال: إشارة المرور الحمراء (الدال) لا تُشبه التوقف ولا تتسبب فيه، ولكنها ترمز إلى التوقف (المدلول) باتفاق عالمي.
- مثال آخر: كلمة "حب" (الدال) لا تُشبه الشعور نفسه، بل هي مجرد ترتيب لأصوات أو حروف يُشير إلى مفهوم عاطفي معين بالاتفاق الاجتماعي.
تطور مفهوم العلاقة بين الدال والمدلول: "تعويم" المدلولات
مع تطور السيميولوجيا، بدأ مفكرون لاحقون مثل رولان بارت وجاك لاكان في تحدي فكرة وجود ارتباط ثابت ومستقر بين الدال والمدلول، خاصة في سياق الإشارة أو الرمز. لقد رأوا أن العلاقة بين الدال والمدلول ليست ثابتة أو حتمية، بل هي أكثر سيولة وديناميكية.
لقد طرحوا فكرة أن الإشارات (الدوال) "تعوم" وتسبح بحرية لتُغري المدلولات. هذا يعني أن الدال الواحد يمكن أن يجذب ويثير مجموعة متعددة من المدلولات، ليس فقط المدلول الأصلي الذي ارتبط به تقليديًا. بل يمكن للدال أن يصبح بدوره دالًا جديدًا يجلب مدلولات أخرى، في سلسلة لا نهائية من الإحالات. هذا المفهوم يُشير إلى أن المعنى ليس مغلقًا أو ثابتًا، بل هو مفتوح للتأويل والتعددية.
"المدلول عالة على الدال": حرية الكلمة وغياب المعنى
هذا التحول في فهم العلاقة بين الدال والمدلول أدى إلى رؤية مفادها أن المدلول "عالة" على الدال. فالدال، سواء كان كلمة منطوقة أو مكتوبة، هو ما يمثل حالة الحضور المادية والملموسة. إنه الكيان الذي يستقبله المتلقي بحواسه.
في المقابل، يمثل المدلول حالة "الغياب" لأنه يعتمد بشكل كلي على ذهن المتلقي في استحضاره وتصوره. فالمدلول ليس كيانًا ماديًا مستقلًا، بل هو مفهوم ذهني لا يظهر إلا عندما يتم تفعيل الدال في عقل المتلقي.
هذه العلاقة الحيوية، التي تُسمى "الدلالة" (Signification)، لا تنشأ إلا بفعل المتلقي. فالمتلقي هو من يُقيم الجسر بين الدال الحاضر والمدلول الغائب، مستخدمًا خلفيته الثقافية والمعرفية لتفسير العلامة.
وبما أن الصلة تقوم بين عنصر حاضر وموجود (الدال)، وعنصر غائب وذهني (المدلول)، فإن المدلول يصبح تابعًا أو "عالة" على وجود الدال. فوجود المدلول يعتمد كليًا على وجود الدال الذي يُشير إليه.
يمكننا أن نتصور كلمة (دال) بلا معنى (مدلول)، بمعنى أننا قد نصادف كلمة غريبة لا نفهم معناها أو ليس لها مفهوم ذهني لدينا. ولكن من المستحيل أن نتصور مدلولاً بلا دال، لأن المفهوم الذهني لا يمكن أن يتشكل أو يُستحضر إلا من خلال وجود شكل مادي (دال) يُحيل إليه.
خلاصة:
لقد تطور مفهوم العلامة في السيميولوجيا من علاقات سببية أو تشابهية أو اعتباطية ثابتة، إلى فهم أكثر مرونة وديناميكية، حيث يكتسب الدال حرية أكبر في إحالة المدلولات، ويصبح المدلول تابعًا جوهريًا للدال في عملية إنتاج المعنى. هذا التطور يُبرز الدور الفاعل للمتلقي في عملية الدلالة، ويُسلط الضوء على الطبيعة المتغيرة والمفتوحة للمعنى في السياقات المختلفة.
التسميات
نماذج بنيوية