علاقة المدرسة بالسلطة الإثنو- ثقافية وبناء قيم الوحدة الثقافية والمواطناتية والإنسية لدى المتعلمين



هذه السلطة تبدو لنا أساسا من خلال إشكالية/مبدأ الهوية، التي تتجلى في اللغة والانتماء الإثني والقومي.

و"مفهوم الهوية لغة يقال لوعي ذات شيء نفسها، فنقول هوية الوجود، أي ذاته، أي أن الشيء الموجود هو نفسه.وهذا التحديد اللغوي الأولي يحيلنا إلى التحديد المنطقي، أي التطابق:تطابق الشيء مع ماهيته، وهذا التطابق يشير إلى شيء آخر هو الوحدة... إذا انطلقنا إلى الميدان السيكولوجي فإن المفهوم يحمل نفس المعنى، لان هوية الشخصية تحدد باعتبارها خاصية فرد يحيا مطابقا لذاته ونفسه والقيم التي يحملها..."(1).

فهل النسق الإثنو-ثقافي المغربي يتحدد وفق آليات/مبادئ التطابق والوحدة بأبعدها السيكولوجية والسوسيو-ثقافية والوجودية بشكل عام؟ ذلك ما سنرى لاحقا.

يمكننا أن نشخص أهم التشكيلات/ السلط الإثنو-ثقافية في المغرب في القومية العربية- الإسلامية، والأمازيغية، والثقافة الغربية (كثقافة"جذرت" مع الاستعمار الفرنسي أساسا، ثم بأشكال الهيمنة الجديدة).

وإن معطى الهوية بأبعادها المختلفة في المغرب، كان ولا زال، يطرح دائما وبحدة، وخصوصا إبان وبعيد الاستعمار الفرنسي، حيث كانت الهوية المتمثلة في الدين الإسلامي واللغة العربية تستعمل في التأطير والصراع الإيديو- سياسي ضد المستعمر، وضد ورثة ثقافة الاستعمار القدامى والجدد.

وسنكتفي هنا بإعطاء مثال دال على ذلك من خلال "بيان من علماء ومثقفي المغرب حول سياسة التعليم والغزو اللغوي والاستعماري في للمغرب العربي"(2).

هذا البيان (وعلى ما يبدو لازال طريا ولم يفقد راهنيته) صدر في 23 مايو 1970، ومن بين ما ورد فيه: "يواجه المغرب منذ حصوله على الاستقلال سنة 1956... ضغطا استعماريا خفيا، يرمي لإقرار وتثبيت وتعميم الوجود اللغوي الفرنسي في المغرب المستقل، وإعطاء هذا الوجود... صفة الشرعية والاستمرار، لا في الإدارة المغربية والمصالح العمومية فقط، ولكن ميدان التعليم وتكوين الأطر المغربية أيضا."

إن واقع الصراع الإثنو- ثقافي عبر سلطة اللغة، سواء كأداة تواصل أو كحامل لقيم إثنية وإيديولوجية ومعرفية، بقي دائما متأججا بحدة، وخصوصا داخل المنظومة المدرسية: في البدء كان الصراع بين الفرنسية والعربية، ثم بين العربية والامازيغية، ثم بين الفرنسية والإنجليزية(وربما الأسبانية) أو بينها كلها!

أن هذا الصراع الاتنو-ثقافي ذو الخلفيات الايديو-سياسية الواضحة ن وفي أيطار"مرجعية التوافق" وجد حلا توفيقيا، وذلك بإقرار العربية والفرنسية والإنجليزية والأمازيغية...دفعة واحدة في المدرسة المغربية!كما ورد في الميثاق الوطني للتربية والتكوين من خلال الدعامة التاسعة من الميثاق.

نعم، هذا الحل التوفيقي قد يرضي بعض الفاعلين السياسيين الذين يلعبون بورقة اللغة/ الهوية لدعم سلطتهم المجتمعية ومصالحهم الاستراتيجية، ولكن بأي ثمن بيداغوجي تربوي ومجتمعي وإنساني؟؟

هل الطفل/ المتعلم (خصوصا في التعليم الأساسي) قادر سيكولوجيا ومعرفيا واجتماعيا، على استيعاب وتمثل وتحمل هذه العوالم اللغوية بحمولاتها وطاقاتها الإيديولوجية والقيمية المختلفة والمتناقضة، دون أي فصام أو إعاقة نفسية وسوسيو- ثقافية، وربما"جسدية" أيضا؟!(اسألوا أهل علم النفس اللغوي والسياسي والاجتماعي وغيرهم).

هل الرأس الصغيرة لطفلنا( وهو في الغالب طفل التعليم العمومي، أي طفل الفئات الشعبية العريضة، وليس طفل النخبة الكل يعرف أين يتعلم طفلها) قادرة على تحمل كل هذه الصراعات الإثنو- ثقافية لمجتمعه والمجتمع الدولي بأكمله؟!

هل، مثلا، دول فرنسا وإنجلترا وأمريكا، ولو من باب المزاح، قادرة على السماح بتدريس اللغة العربية أو الأمازيغية في مدارسها الابتدائية أو الأساسية؟ لو تم ذلك لقامت القيامة السياسية.

نعم للتفتح علة لغة الآخر، كلغات للتواصل البين-ثقافي بين الشعوب، وكلغة للعلم والمعرفة، لكن، على الأقل، ليس في المستويات البنائية الأولية( الابتدائي و الأساسي)، لأن ذلك يحدث شرخا في هوية الذات، وقد يكون من بين العوامل الأساسية التي تكرس آليات الفشل الدراسي والتمزق الثقافي والاجتماعي لهوية الطفل/المواطن.

وفي هذا الإطار هناك سؤال جوهري يطرح نفسه هنا: ما دامت الهوية بأشكالها الإتنو-ثقافية الإيديوسياسية معطى تاريخي ونسبي (وهذه حقيقة علمية وأنتروبولوجية)، لماذا لا نسعى إلى تأسيس- أو على الأقل تجديد- هويتنا وفق منطق ما يسميه الأستاذ الجابري"الاستقلال التاريخي للذات..." أو بعبارة أخرى، تحقيق استقلالية تاريخية ثقافية وسياسية للذات والمجتمع بالشكل الذي يجعلهما يعيشان وجودهما المستقل هنا والآن (بالمعنى الهايدغيري)، وذلك وفق تقدم ونضج الوعي النقدي العلمي والإنسي الذي حققته الإنسانية، وبذلك نتخلص من قدرية الماضي والآخر.

فلماذا لا نؤسس ونكرس "هوية جديدة" انطلاقا من مبادئ وثقافة الوحدة المواطناتية والإنسية الشاملة؟

عن ثقافة الاختلاف والتعدد كما وصلتنا تاريخيا، كانت نتيجة منطق صرا عات-غالبا- لا إنسية ولا ديمقراطية ولا علمية.

وإن غياب ثقافة الوحدة (وهوية موحدة) غلبا ما يجعلنا أمام واقع التمزق والتضاد والتناحر بين مختلف التشكيلات اللإثنوثقافية داخل المجتمع، وما وجود بعض الصراعات والانفجارات والحروب المجتمعية والدولية التي نشاهدها( صراع الحضارات، التناحر الإثني...) سوى دليل بسيط على غياب ثقافة محلية أو دولية موحدة.وغياب ثقافة الوحدة آو الوحدة الثقافية باسم الحق في الاختلاف والتعدد، غالبا ما يكون ما يكون حقا يراد به باطل!

نعم للإخلاف الذي يقوي الوحدة الثقافية والسياسية للبلاد، وذلك دون استغلال وتوظيف التعددية الثقافية بشكل سياسي انتهازي ضيق، يعمل كسلطة كبت وعنف ضد ثقافة الوحدة، وذلك من أجل ضبط المجال السياسي ثقافيا.

إن غياب وحدة إثنوثقافية-أو على الأقل ثقافة ديمقراطية وإنسية ومواطنة- تجعل المجتمع، أبدا، سجين قدرية صراعية مغلقة، ولا تنتهي داخل حلقة عبثية مفرغة من أي معنى إنساني ومواطنتي علمي.

وبهذا الصدد يقول عبد الكبير ألخطيبي:"لنأخذ مثلا الكانسان المغربي، فإننا نلا حظ بأنه يحمل في أعماقه كل ماضيه ما قبل الإسلامي والإسلامي العربي التي تكون هذا الكائن، ومن ناحية أخرى يجب أن نفكر في الوحدة الممكنة بين هذه العناصر جميعا لأنها وحدة غير لا هوتية..."

إن بناء قيم الوحدة الثقافية والمواطناتية والإنسية يجب أن يبدأ من المدرسة كمؤسسة للتنشئة الاجتماعية، عوض أن نغرق المدرسة في مستنقع الصراعات الضيقة والأنانية المجانية من اجل التحكم والسلطة الوحشيين ودون الرجوع إلى/والاهتداء بالقيم والأخلاق المواطناتية والإنسية الشاملة و الموحدة.

ويجب أن نقر بأن مدرستنا، ورغم ظلمات الأطماع الإيديولوجية الضيقة، تعرف ومضات نور في سماء إصلاحاتها المرتقبة.

1- عبد المجيد الانتصار، من الهوية إلى الإنية، مقال ورد في" الهوية الثقافية المغربية: جدلية الخاص والعام" سلسلة ملتقى الفكر المغربي، منشورات الشعلة، الطبعة الأولى 1998.
2- تعريب التعليم و المحيط في انتظار القرار، سلسلة عالم التربية، العدد4، خريف 1996، ص161.


المواضيع الأكثر قراءة