مصدر الشعر عند الشعراء الرومانسيين العرب.. ليس مجرد عناصر مكونة جمالية وغير جمالية بل نظام وبناء وطريقة، رؤية خاصة للحياة والكون



يذهب كثير من الشعراء الرومانسيين العرب وبعض الرومانسيين الغرب أمثال شللي إلى أن الشعر إلهام من قوة غيبية، والشاعر نبي يوحى إليه من السماء.

ومن ثم فهو لا يكلف نفسه مشقة فيما يكتبه من شعر أو يعمل فكره فيما يريد قوله.

وهؤلاء يرجعون هذا اليسر إلى علاقة الشاعر بعالم أعلى متجاهلين ما سبقه من تفكير أو معاناة، وكأن هذا اليسر حالة مطردة في كل القصائد، وقاعدة تصلح لتحديد مصدر الشعر.

فهم ينطلقون من لحظة الولادة دون مراعاة مراحل تطور الجنين الشعري في نفس الشاعر.
وهذا تفسير يحاول إظهار عبقرية الشاعر وقدرته الخارقة وشخصيته المتميزة.

وقد تأثرت المدرسة النفسية بالمذهب الرومانسي في تفسير عملية الإبداع فركزت على شخصية الشاعر من خلال عمله الفني وكأن القصيدة سيرة نفسية لصاحبها.

فاللاشعور الفردي أو الجمعي هو مصدر الفن، والشعر بهذا تعبير عن المكبوت أو تعويض نفسي عن العجز والدونية.

لقد حل مصطلح اللاشعور محل الإلهام وانتقل المصدر من السماء إلى الأرض، ومن الإله إلى الإنسان، ومن الخارج إلى الداخل.

أصبح الشعر انفجاراً للذات التي تطلب الخلاص بالبوح والاعتراف، وعلاجاً لأمراض الشاعر.

على أن هذا التركيز على الداخل دون الخارج ولد رد فعل لدى المدرسة الاجتماعية التي وجهت اهتمامها إلى المحيط الاجتماعي.

فالمجتمع يشكل وعي الإنسان ويبني ذات الفنان ويؤثر في عملية الإبداع ذاتها.
المجتمع هو مصدر الشعر لأن الفرد جزء لا يتجزأ من المجموع، فالإبداع عملية جماعية.

ومثل هذا التفسير يهمل خصوصية الشاعر في نظرته إلى الأشياء وفي بناء عالمه الفني الخاص، وخصوصية العمل الفني ذاته واختلافه من شاعر إلى آخر، بله اختلافه عن الأعمال النفسية والاجتماعية والفلسفية والدينية.

على أن حصر مصدر الشعر في الواقع الاجتماعي وحده أو الذات المبدعة وحدها أو حصره في الثقافة دون غيرها قصور في النظر، ذلك أن مصادر الشعر متعددة ومتنوعة ولا يمكن حصرها.

وهي لا تبقى كما هي في حقيقتها بل تمر عبر ذات الشاعر، وهي ذات متميزة في نظرتها إلى الأشياء وتشكيل عالمها الخاص.

وتتمتع بقدراتها الفطرية والمكتسبة التي تؤهلها إلى الإبداع المتميز. ولا يمكن أن يحل محل هذه الذات ذات أخرى فهناك شكسبير واحد ومتنبي واحد.

ولو لم يكتب تولستوي روايته الحرب والسلام ما كتبها أحد غيره.
على أنه لو لم يكتشف نيوتن قانون الجاذبية لاكتشفه عالم آخر بعده.

فالفن يرتكز إلى عاطفة لا تتكرر إذ لو وقف شاعر أمام البحر مرتين لكتب قصيدتين مختلفتين.
ومهما يكن من أهمية هذه المصادر فإنها تبقى مجرد مادة خام ترفد الشعر وتغنيه ولا قيمة شعرية لها في ذاتها.

والشاعر يأخذ منها بحسب رؤيته وبطريقته ما يحتاجه فنه.
ومن الخطأ أن يقتصر عليها ناقد في تحديده للشعر، ذلك أن المصدر وحده لا يحدد ماهية الشعر.

فالشعر ليس مجرد خبر أو فكرة أو موضوع، فذلك جزء من أجزاء كثيرة تكون العمل الشعري.

ثم إن الشعر ليس مجرد عناصر مكونة جمالية وغير جمالية بل نظام وبناء وطريقة، رؤية خاصة للحياة والكون.

إن مفهوم الشعر لا يتحدد من خلال اللاوعي الفردي (فرويد) أو من اللاوعي الجمعي (يونج) أو الحس الديني (نيتشه) أو من خلال دوافع أخرى كالغضب والرهبة والرغبة والطرب (النقاد العرب القدامى).

فهذه دوافع لا تحدد العمل الشعري الذي هو مادة لغوية وفضاء صوتي بالدرجة الأولى.
فلا نستطيع أن نحدد الشعر قبل أن يتشكل العمل الشعري ذاته.

فالمصدر سواء كان نفسياً أم اجتماعياً أم ثقافياً يتغير أثناء عملية الإبداع فيفقد طبيعته الأصلية ليكتسب طبيعة جديدة هي طبيعته الفنية.
ومن ثم فإن رد الإبداع إلى هذه الأصول قصور في النظر.

إن هذه المصادر ليست عوامل حاسمة في تحديد الشعر، فما يحدد العمل الفني هو الفن ذاته، الجنس الأدبي بمقوماته الجمالية لا النشأة والأصول.