العاهات الجسدية للأطفال والإصابة بالعقد النفسية.. الشعور بالنقص والنظرة الحاقدة إلى الحياة



العاهات الجسدية للأطفال والإصابة بالعقد النفسية:

أما عامل العاهات الجسدية فهو أيضاً من العوامل الكبيرة في انحراف الولد النفسي،لما يؤول في الغالب إلى الشعور بالنقص،والنظرة الحاقدة إلى الحياة..

مركبات الشعور بالنقص:

فالولد حين يصاب – منذ الصغر – بعاهة جسدية كالعور، أو الصمم، أوالعته، أو التأتأة ونقص النطق.. فينبغي أن يلقى ممن يعيشون حوله من أب وأم وإخوة وأقرباء وجيران وأصدقاء وأهل.. كل رعاية وعطف ومحبة، وأخلاق سمحة رضية، وتعاطف حسن جميل.. تحقيقاً لحديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ (ص): الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمَ الرَّحْمَان، ارْحَمُوا من في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ.[1]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ (ص)، قَالَ: أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا.[2]
ولكن حين يخاطب المصاب بعاهة العور يا أعور، وبعاهة الصمم يا أطرش، وبعاهة العُته يا أجدَب، وبعاهة نقص النطق يا أخرس.. فمن البديهي أن تتولّد لدى الولد الواعي المميز مركبات الشعور بالنقص وآفات العُقد النفسية.. فلا عجب أن نراه في حالة يُرثى لها من الصراع النفسي، والحقد الاجتماعي، والنظرة المتشائمة للحياة..

علاج مشكلة عاهات الأبناء بالأسلوب الحكيم:

لهذا وجب على المربين أن يعالجوا مشكلة عاهات أبنائهم بالأسلوب الحكيم، والتربية الصالحة، والمعاملة الرحيمة، والمراقبة التامة.. على أساس أن قيمة الإنسان في دينه وأخلاقه لا في شكله ومظهره..

فأول خطوات هذه المعالجة أن ينظروا إليهم نظرة حب ورحمة، وأن يخصوهم بالعناية والرعاية، وأن يشعروهم أنهم متميزون عن غيرهم بالذكاء والمواهب، والعلم والخبرة، والنشاط والحيوية.. فهذه النظرة إليهم، والإشعار لهم يزيل في نفوسهم آفة الشعور بالنقص، بل يندفعون بكليتهم – بكل ثقة واطمئنان – نحو العمل البنّاء، والإنتاج المثمر.

النصح والتحذير:

وثاني خطوات هذه المعالجة أن يقوم المربون بواجب النصح والتحذير لكل من كان حول المصاب من خلطاء سواء أكانوا أقارب أم أباعد، حيث يحذرونهم مغبة التحقير والإهانة، ونتائج الاستهزاء والسخرية، وما تتركه من أثر سيء في نفوسهم، وما تحدثه من مضاعفات أليمة في أعماق أحاسيسهم ومشاعرهم..

وعلى المربين حين يوجهون وينصحون، أن يبينوا لكل من يجتمع بالمصاب منهج المربي الأول صلوات الله عليه في دعوته الكبرى إلى وحدة اجتماعية متينة متراصة تقوم دعائمها على الصفاء والمحبة، وتتركز أسسها على التوقير والاحترام..

وهذه أسس منهجه عليه الصلاة والسلام في تحذيراته من كل ما يمس الكرامة الإنسانية، ويحطم الشخصية المسلمة، ويمزق الوحدة الاجتماعية المتراصة..

فمن تحذيراته عليه الصلاة والسلام من آفات اللسان قوله فيما رواه البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ (ص) قَالَ «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً، يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ »[3].

وعَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص): لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأَخِيكَ،فَيَرْحَمُهُ اللهُ وَيَبْتَلِيكَ.[4].

 وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قُلْتُ لِلنَّبِىِّ (ص) حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا قَالَ غَيْرُ مُسَدَّدٍ تَعْنِى قَصِيرَةً. فَقَالَ «لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ». قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا فَقَالَ «مَا أُحِبُّ أَنِّى حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِى كَذَا وَكَذَا».[5]

وتندرج هذه التحذيرات كلها تحت قوله تبارك وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات

يَنْهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمنينَ عنِ السُّخرِيةِ مِنْ إِخْوانِهِم المُؤْمِنينَ، وَالاستْهزاءِ بِهِمْ، وَاسْتصْغَارِ شأَنِهِم، فَقَدْ يَكُونُ المُسْتَهزَأ بهِ أكْرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنهُ، وَالمُحتقِر لهُ، فَيَظْلمُ نَفْسَه بِتَحْقيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللهُ.

كَمَا نَهى تَعَالى النِّساءَ المُؤْمِنَاتِ عَنْ أنْ يَسْخَرْنَ مِنْ أخَواتِهِنَّ المُؤْمِنَاتِ، فَقَدْ تَكُونُ المُسْتَهزأ بِها أكرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرةِ مِنْها.

كَما أمَرَ اللهُ المُؤْمِنينَ بألاَّ يَغْتَابَ بَعْضُهُم بَعْضاً، وَبأنْ لاَ يَعِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَبأنْ لا يَطْعَنَ بَعْضهُمْ في بَعْضٍ.

وَاعْتَبَرَ تَعَالى لَمْزَ الإِنسَانِ أخَاهُ كَلمْزِهِ نَفْسَهُ، وَطَعنَهُ أخَاه كَطَعْنِهِ في نَفْسِهِ، لأنَّ المُسْلِمينَ جِسَدٌ وَاحِدٌ إِنِ اشتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهرِ وَالحمى. كَما قَالَ رَسُولُ اللهِ (ص) .

وأمرُ الله تَعَالى المُؤْمِنينَ بأنْ لاَ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِلَقَبِ يَسُوؤُهُ أو يَكْرَهُهُ، كَأنْ يَقُولَ مُسْلِمٌ لأخِيهِ المُسْلِمِ:يا فَاجِرُ، أوْ يَا غَادِرُ أو يَا عَدُوَّ اللهِ أو يَا مُنَافِقُ... وَبِئْسَتِ الصِّفَةُ، وَبِئْسَ الاسْمُ للْمُؤْمِنينَ أنْ يُذكَرُوا بالفُسُوقِ بَعْدَ دُخُولِهمْ في الإيمَانِ. وَمَن لم يَتُبْ مِنْ نَبْزهِ أخَاهُ المُؤمِنَ بِلَقَبِ يَكْرَهُهُ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ لَمْزهِ إخْوَتَهُ، وَمِنْ سُخْرِيَتِهِ مِنْهُم.. فأولئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ الذِينَ ظَلَمُوا أنفُسَهم فَأكْسَبُوها عِقَابَ اللهِ بِعِصْيَانِهِم إيَّاهُ.[6]

إشباع غريزة حب الاجتماع:

وثالث خطوات هذه المعالجة أن يهيئ المربون لأولادهم المصابين رُفقَة من الأصحاب حسنة آدابهم، مرضية عاداتهم.. حيث يجتمعون بهم، ويلعبون معهم، ويتبادلون أحاديث المحبة فيما بينهم.. ليشعروا في أعماق وجدانهم محبة للناس لهم،واهتمامهم بهم وعطفهم وعليهم.

يقول ابن سينا في عرض تنمية شخصية الطفل، وإشباع غريزة حب الاجتماع في نفسه: "أن يكون مع الصبي في مكتبه صِبْيَة حسنة آدابهم، مرضية عاداتهم لأن الصبي عن الصبي ألقن، وهو عنه آخذ،وبه أنس".

والذي نخلص إليه بعدما تقدم أن المربي لا يعدم وسيلة في معالجة مشكلة العاهة الجسدية في ولده المصاب سواء ما يتعلق بنظرة الحب والرحمة، أو تخصيصه بالعناية والرعاية، أو تحذير البيئة التي يعيش فيها من الهزء والتحقير والإهانة، أو إعداد الرفقة الصالحة التي يجتمع بها، ويلتقي معها.. وبهذا يكون قد أزال من نفسه عقدة الشعور بالنقص، وهيّأه ليكون عضواً نافعاً في المجتمع، يبني بساعديه صرح الحضارة، ويشيد بعزمه مجد أمته ومستقبل بلاده..

هوامش:

[1]- مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 338) (25864) صحيح.
[2]- صحيح ابن حبان - (2 / 227) (479) صحيح.
[3]- صحيح البخارى- المكنز - (6478).
[4]- سنن الترمذى- المكنز - (2694) حسن.
[5]- سنن أبي داود - المكنز - (4877) صحيح.
[6]- أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4502).