الأبعاد النفسية والمرجعية في رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ.. الصراع الداخلي والتمزق النفسي الناتجين عن الخيانة الزجية



ببدو سعيد مهران شخصية غير متوازنة وغير متزنة بسبب كثرة أخطائها في إصابة أهدافها، كما أنها شخصية إشكالية تتأرجح بين الذات والموضوع، وتعاني من الصراع الداخلي ومن التمزق النفسي الناتجين عن خيانة زوجته نبوية وصديقه عليش سدرة وأستاذه رؤوف علوان الذي كان يعلمه النضال والثورة على الفقر عن طريق سرقة الأغنياء بطريقة فردية أو بطريقة جماعية منظمة، وكان منبهرا بصوته الثوري القوي وبمبادئه الاشتراكية الرائعة التي تسوي بين الفقراء والأغنياء في تقسيم ثروة الوطن وتوزيعها بعدالة على الشعب وأبناء المجتمع، بيد أن هذه الشعارات كانت جوفاء فارغة من كل معنى.

وعليه، فسعيد مهران بخروجه من السجن صار شخصية أخرى تريد الانتقام والثار، أي أصبحت شخصية عدوانية حاقدة جاءت لتشعل النار في أجساد الخائنين والماكرين الخادعين الذين زجوا به في السجن كيدا وخديعة.

ومن ثم، يتسلح سعيد مهران بالمسدس ليصفي حساباته مع كل الأوغاد الذين فرطوا في قيم التلمذة والصداقة و المحبة.
لذا، يتحول سعيد إلى شخصية عدوانية عابثة ترى الوجود كله يأسا وسأما وعبثا بلا معنى ولا جدوى.

ويلاحظ أن التناتوس (الموت أو الغرائز العدوانية) هو الذي كان يحرك سعيد مهران شعوريا ولاشعوريا، وهو الذي كان يدفعه لتصفية الحسابات مع الخونة والقضاء على حياتهم، ولكن شخصية مهران لم تكن تخطط جيدا لأهدافها.
ومن ثم، كان قتله للأبرياء والبوابين دليل على مدى عبثية حياته ولا جدوى وجوده.

ومن ناحية أخرى، كان نجيب محفوظ ينتقد التجربة الاشتراكية الناصرية والضباط الأحرار والتابعين لنهجهم الذين كانوا يطلقون شعارات وطنية ثورية إبان مرحلة الملكية في عهد الملك فاروق؛ إذ كانوا ينددون بالفساد السياسي والاقتصادي والأخلاقي والمجتمعي، ويدعون إلى الحرية والديمقراطية ودسترة البلاد وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ولكن لما تولى الضباط الأحرار الحكم وتسلم محمد نجيب وجمال عبد الناصر الحكم، كثر الفساد في هذه المرحلة وهيمنت البيروقراطية وأممت ممتلكات الشعب وازداد الفقر وكثر الجوع وانتشر الظلم الاجتماعي، واستفاد الثوار الاشتراكيون من المناصب السامية وأصبحوا متبرجزين على غرار الباشاوات في عهد الملكية المطلقة، وما رؤوف علوان إلا نموذج للانتهازية إبان الخمسينيات وفترة الستينيات.

وخان الدعاة والساسة الشعارات الاشتراكية التي كانوا يدافعون عنها، ومكروا بالشعب واستفادوا من الثروات الطائلة، وسببت هذه الخيانة فيما بعد في عدة نكسات وهزائم استنزفت خزينة الدولة، ولاسيما الهزيمة النكراء التي انتصر فيها العدو الصهيوني على العرب وقوضت مكانة جمال عبد الناصر قوميا سنة 1967م.

ويقول غالي شكري محددا مرجعية الرواية وسياقها الخارجي: "تنتقل بنا ( الرواية) من الجو الملحمي إلى قلب التراجيديا مباشرة.

ذلك أن التغيير المنشود قد تم في مناخ أقل ما يوصف به أنه شديد الاضطراب، فلا تنظيم سياسي يقود تطلعات الجماهير إلى الاشتراكية، والقرارت الفردية تنزل من عل فلا يتحقق منها ما يتحقق إلا بالقهر ودون مراجعة، والمنتمون الثوريون يعجزون عن المشاركة في تصحيح ما يستوجب التصحيح...

وفي ظل هذا الغياب الشامل للتنظيم والديمقراطية جنبا إلى جنب القرارات العلوية التي لا يتسق مضمونها مع أدوات التنفيذ للدولة القديمة المهيمنة، يقع المنتمي في أزمة جديدة عنيفة بين الوجه الذي علمه الثورة وانضم إلى صفوف الطبقة الجديدة الوليدة وخان، وبين الوجه الرابض في أعماقه للكتاب والمسدس.

"ويعني هذا أن سعيد مهران شخصية ثورية تحاول تغيير الواقع ولكن بدون هدف، أي إنها لم تنجح في ذلك أيما نجاح.

ولقد "أضاف الواقع الحي إلى انتصارات العلم والفكر الاشتراكي، أن طبقة جديدة قد ولدت في ظل الفراغ التنظيمي والسياسي والأيديولوجي، وأن هذه الطبقة التي يمثلها في الرواية "الصحفي" رؤوف علوان قد خانت مبادئ الثورة وأمست العدو الأول لسعيد مهران وما يمثله من قيم... وكذلك أضاف الواقع الحي أن الشيخ الجنيدي لم يكن في جعبته من التصوف ما يشفي غليل سعيد مهران إلى الحرية والعدل".

ولا أتفق مع ماذهب إليه غالي شكري في تعليله لموقف الشيخ علي الجنيدي؛ لأن الحل الحقيقي لأزمة سعيد مهران هو الحل الديني والصوفي، وذلك بتنقية الضمير من ترهات الثوار الاشتراكيين الذين فشلوا في تغيير الواقع وزجوا بسعيد مهران إلى السجن، فالحل- إذاً- هو العودة إلى الله الضامن الحقيقي للسعادة البشرية.

وإن رؤوف وأمثاله من الخونة انتهازيون لن يقدموا أي حل يسعد الإنسان سوى الحل الروحاني الذي يشير إليه علي الجنيدي عن طريق تغيير الإنسان لنفسه وتطهيرها من أطماع الدنيا الزائلة والتخلي عن شوائب الأيديولوجيا الزائفة والارتماء بين أحضان الرب.

وموقف الجنيدي كان واضحا وهو أن يبدأ سعيد بالتصالح مع الله، وأن يقتنع بالوجود الحقيقي بدلا من الوجود الإيديولوجي والعبثي الذي يبحث عنه.

ولن يتحقق التغيير في المجتمع إلا بالاتكال على الله والتحلي بالصدق والعودة إلى هداية الله وتمثل شريعته المستقيمة.

وما هزيمة مصر في حرب حزيران 1967م أمام القوى الصهيونية والغربية سوى مؤشر على النفاق وتضعضع السياسة الناصرية والاحتكام إلى الأهواء الشخصية والإيديولوجية.


المواضيع الأكثر قراءة