عندما يصبح النص عالما له ثلاثة عقول مختلفة من أجل رؤية العالم على حقيقته

كنت اقرأ ' موبي ديك' لمرة أخرى، بعد انقطاع طويل، حين يسهب هرمان ملفل في وصف الضابط ' ستاربك' في جمل عذبة جزلة، أعرفها وأعرف ما يريده، تقعد قواي العقلية عن المتابعة وتشرد في حنين إلى ألفة لا يمكن إعادة أحداثها مرة أخرى.

ما جرى في الماضي لن يعود، حتى لو أنني تمشيت في نفس الشارع ونفس الوقت من ساعات النهار. فصل الشتاء وهو فصل غير بارد لم تكن هناك زمهرير الرياح والعواصف كما في المناطق القريبة من القطب الشمالي، الطريق الممتد لا يضفي إلى شيء فأنا لم أكن أمشي.

وعمارات عالية قديمة تشكل صورة للمدينة من بعيد، ازدحام الناس وفجأة بزغت الشمس وارتفعت الحرارة ودخل الصيف.

وكنت وقتها أتشهى الحلويات الشرقية، البقلاوة والمبرومة، بالقرب من محال الحلويات غبار واضطراب شرقي، الزجاج المصري الذي يغطي الحلويات عليه طبقة خفيفة من الدهن الجامد الغبر، وثمة ذبابة تتسلق الركن، المحل يقع على زاوية غير حادة، زاوية بنيت على شكل دائرة، وهناك مالك المحل ومعه رجلان وراء طبقة الدهن والحلوى، أحدهم لف رأسه بعمامة، لم يتكلما شيئا بل نظرا نحوي بعفوية، بالتأكيد قطعت سلسلة افكارهما وما كانا فيه من مناقشة، فنظرا نحوي حين دخلت ـ على أن النظرة كانت تحمل معها الريبة.

عما كانوا يتحدثون؟
الذي شغلني في ذلك الوقت هو الحلوى ولم تشغلني أفكارهم ولا انتماؤهم، المهم لديّ هو التحلي وإعادة المتعة التي طلبها الخيال، فالحلويات ـ ليس من أجل الحلويات بل من أجل الذكرى التي وقعت حين مررتُ.

كان يجب أن أمر بالقرب من المحل كي تقع الذكرى، فجاءت من بعيد. طيف يتهلهل ويتسع، على الرغم من أنني كنت في كثير من المرات أعاتب الجينات والأب والأم على التركيب غير السليم الذي تمتلكه قواي العقلية، فهي بعض الأحيان تتذكر وتصاب بشجن غريب وتكاد تتشظى فأقف لحظة اراقب حزنها وبكاءها محاولا تسجيله وكتابته ـ حين أنظر إلى نفسي في هذا الحال لا أجدها إلا دميمة ساكنة لا تقوى على الحركة، امرأة عجوز فقدت اللغة. حين تفقد المرأة اللغة تموت. يدها مزمومة حول القلم ورأسها منكب على الطاولة عند ورقة بيضاء، وشعرها متهدل وخصلات منه تصل المحبرة.

وكان جيدها، نسيت المعنى الذي تشير إليه كلمة جيدها - ماذا تعني كلمة جيدها ـ الذي أردته هو صفحة وجهها الأيسر وهي مطرقة نحو الورقة كان طرف وجهها (لا بد من القاموس الوسيط: الجيد هو العنق ومقدمة وموضع القلادة - التي أهديتها إياها مرة - والمدرعة الصغيرة ' ج' أجياد وجيود).

وكان ذاك الشيء الذي عند صفحة وجهها يعلن بداية الكلمة، املس مائلا ومنحدرا نحو تخوم مجهولة قديمة المنشأ، وأراضيها المغزولة من تبعيتي لها، والتماسي إلى القضاء والقدر لماذا منعني عنها.

احدهم يدخن الأركيلة، يسعل ثم يرفع الانبوبة بعيدا عن فمه، ويسعل، ثم يقول بين السعلات التي تصبح خفيفة متقطعة لا توجد لدينا حلويات حلبية. انا مرة رحت إلى حلب وكان لديهم مبرومة رائعة أكلت أصابعك وراءها. فنظرت إلى أصابعي، أوه نعم، لا أصابع في كف يدي. ثم سعل وقرب الانبوبة والدخان راح ينفث... وهو بين لحظة واخرى يشير بالانبوبة الى ما كان يعبر عنه للرجلين اللذين يتبعانه في أفكار لا أسمعها صامتة ـ الصم والبكم - وكان شكل البحر الإسكندراني الغريب مطويا محدودبا في الأفق الدخاني لا سراب ويبدو شكل سفينة عظيمة قادمة من المجهول البعيد.

هل سأتابع واكتب
عندما لا أحد يقرؤني،
يا هيرمان ملفل أوقف سفينتك البعيدة
اغرقها ساجية نحو الأعماق.

خرجت من المحل من دون أن اظفر بالحلوى- كما ترين، لا يوجد في هذه البلاد حلوى التي جاءت بالأصل من تركيا وتلقفتها بالتمام والكمال حلب، مدينة الفن لها المعالي والرتب...

ملاحظة:
يصحح المترجم المبدع احسان عباس لهرمان ملفل في الصفحة 70 خطأه في أن من يجر الزلاجة في سيبيريا الخيول وليس الكلاب 'خطأ من ملفل، والصواب، تجرها الخيول'.

ولقد انتظرت الليلة كي انهي هذا النص، لم اقفله بعد، ذهبت الى النوم، في النوم جاءني سارماغو شيخا معمرا على دراجة هوائية في شارع قديم فهتفت باسمه بصوت خفيض كي يتوقف، فتوقف ونظر نحوي فاقتربت منه وأخذت يده على الطريقة الشرقية، يدا ليست جليلة ـ كانت صغيرة وقد ضمتها يدي- وقبلتها كأنه الأب ـ نحن يا سيدي نحترم الكبار ونقبل أياديهم، وأنت مثل أبي- وهو يقول لي من أعماقه: أكتب! ثم نظر الى الذي يقف إلى جانبي وقال له يشير نحوي مستغرقا مذهولا: هذا حوله ثلاثة شياطين كبار ولا تحاول أبدا المساس به! فاستيقظت عند النص وأنا متفائل قليلا من جراء هذا الحلم المشجع - كوني أعتمد على الأحلام - ذلك لأن هناك، كان هناك منذ زمن بعيد حلم آخر أرقني لوقت ومنعني من الكتابة حين رأيت بطل روايتي الأولى يرفع صوته ويعلن في نفس الزقاق الذي رأيت فيه سارماغو ويقول إنني ' صفر فارغ' في التاريخ. وحاولت وقتها أن أفهم ما يعنيه، وفهمت فاعتكفت وابتعدت، والأرق والتكدر ـ ثم جاءت الأيام التي تؤكد ذلك، أنني صفر فارغ، وكأنني استسلمت للقدر- أنني بالفعل كذلك.

لكنني اليوم بعد هذا الحلم تراني يا هيرمان اتحضر للبدء، حين أدركت ما أراده لي الحلم الأول،
لست أنا الصفر الفارغ،
لكنها الراوية،
الرواية التي سأكتبها وأسميها ' صفر فارغ'.

ثلاثة شياطين، هنا بيت القصيد، لم أكن لأكتب بشيطان واحد بل بثلاثة على هيئة هندسة الشياطين الفراغية الكلية التي يتفشى فيها الحرف ويصبح النص عالما له ثلاثة عقول مختلفة - كي نرى العالم على حقيقته - لست أنا فقط من يعيش فيه، فهناك مجرة كاملة، لا يمكن أن يراها عالم بعين واحدة.
حسين سليمان

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال