ما زال يهطل في قصيدته المطر لأحدّثنـّك لو يخفّ هنيهة عن هجرة الأسماكِ صاعدة ً إلى الينبوع

إلى سعدي يوسف
هي شرفة ُ ُ تنأى ولا قمرُ ُ،لأرقى سلـّـمي الحلزونَ؛
ساءت صحّتي وعَشِـيتُ من فرط القراءةِ في الظلامْ
والنومُ عندك يا بويب الطفل صحوُ ُ خاطفُ ُ كبريق ملاّحاتهمْ
وأنا سهرتُ الليلَ في مطر [كنبض القلب،
يهطل قاتما، في ساحة الخزّافِ
كنتُ أخاتلُ الكلماتِ مبلولا 
أجمّعُ في يدِي حبّاتها 
الشعرُ يبدأ من كلام نيّئ ٍ كالعشبِ
من مطر علينا أو لنا
الشعر يبدأ من حليب التين مجروحًا
ومن نقش كنقش الهندباءِ..الشعرُ مقسومُ ُ ومقسومُ ُ عليه الشعرُ أوميغا الكلامْ

أسرابُ زقزقةٍ تحطّ 
وكان عشبُ النهرِ إجّاصا تجفـّـفَ جيّدا في الشمسِ هذا الفرنِ
كنّا في طفولتنا نحاكي زقزقاتِ الطيرِ حتّى تستكنَّ لنا
ـ تعال هنا
ـ سنجتذبُ الطيورَ إذنْ إلى الأشراكِ.. كالكلمات

عطرُ ُ كبيتشولّي
يذكّرني بلونكَ يا بويب الطفل أم
لونُ ُ يذكّرني بعطرك 
حيثُ كان اللونُ ماهية ً..هنالك في مجاري الماءْ
***كان الترابُ يشدّني نُزُلاً إليهِ
وكنتُ أرقى سلـّمي حتـّى مصبّ النهرِ
أمسكُ في يدي صنّارةً للصيدِ
كان النهرُ خطـّا مستديرًا
مستهلّ كتابةٍ رمليّةٍ.. ما فيه إلاّ ظلُّ مجرى 
من أساطيرِ العراقيّينَ.. من ألواحهم،
من حزنِ أنكيدو المعـتّـقِ في جرار الطينِ
يأتي ناعما بطفولة السنجاب أو
متمسّحا كالهرِّ وهو يذبّل العينين،
إذ يحتكُّ هجسُ النهرِ بالأعشابِ؛
خلف طريقه المرصوفِ بالحصباءْ

لابدَّ من مطرٍ وحزنٍ باذخٍ لقصيدتي
الليلُ يدخلُ من جنوب أبي الخصيبِ
(أكاد من وَهـْمٍ أقول الليلُ يدخل من جنوب القيروانِ) 
هناك ضوءُ ُ حامضُ ُ يدنوُ
وسيّدة ُ ُ تهلّ ُ مع الخريفِ
تقول فيما النهر كان يلوحُ أسودَ في قصيدته كخيط النمل ِ:
كانت شهوتي إذ أرتخي للماءِ
أن يزن الظلالَ بحلمتيّ، وأن يُضاعفها، ويوفِي كيْـلها

سنموت في يوم مطير ٍ مثل يوم اليشكري
ونجمّد الكلمات مثل الماء.. نحفظها ليوم قائظ ٍ في القيروان

مطر على مطر ابن أوسٍ، لا يذوقُ الصحوُ منه ولا يذوبُ
على شناشيل ابنة الجلبيّ مقبلة إلى وعدي
على جيكورَ نائمة ً وصاحية ً ،على طابوقها،
مطرُ ُ يعَضّ ُ على الهواء..على سقوفِ منازل الأقنانِ

مطر لهذا النهر بحر طفولتي
تلك القصيرة يا بويب كظل هاجرة الجنوب 
مطرُ ُلغرقانا
لأوّل خطوة في مائه
لقوارب الصيد التي عادت بلا صيد
لعائلة من الأشجار في وهجٍ من المستنقعات ِ
لنجمة الراعي،لكلبته،
لجلجل كبشنا في العيدِ 
للأطفال إذ يتراشقون هناك تحت نوافذي بـِكُراتِ ثلج كان خلّفها المطرْ
 
مازال يهطل في قصيدته المطر
لأحدّثـنـّكِ لو يكفّ ُ هنيهة ً عن هجرة الأسماكِ هابطة ً من الينبوع

لا ضفـّة ُ ُ أخرى لأسبحَ نحوها
لا شيءَ خلف النهر ِ
غير الريحِ تحمل لي
صليلَ سلاحهمْ وروائحَ الموتى
ويهمسُ ميّتُ ُ لرفيقه:
ـ أخفيت ُ موتي كالعراقيّين،
موتى يحرسون عظام موتاهم
وجئتُ هنا إلى جيكورَ أخفي جثّتي
ـ أمّا أنا فقد اطـّرَحـْتُ هنا كما الثعبانُ جلدي 
!قل إذن
لو جرّبَ الجنرالُ لحنا غير موسيقى العساكر مرّة ً
Capriccio ً نقرًا على قيثارةٍ
لو شدّ أغنية ً إلى أوتارها
لو كان يحفظُ بيت َ شعر، لوْ
إذن هل كان شعبُ النهر يرقى السلّمَ الحجريَّ ذا؟ 
هل كان يحمل في منافيهِ منصّة َ نعشهِ؟

مطرٌ يحفّ قـُرونـَهُ بالنخل مثل أيائل الغاباتِ
فلاّحُ ُ عراقيّ ُ ُ يكوّم حُزمة َ الأغصانِ ..آنَ لنا إذنْ
تحويلُ ماء النهرِ 
عن مجرى أساطيرِ العراقيّينَ،
آن لنا إذنْ نُلقي لرغوتهِ الرصاصِ،لِـقِـلْـيهِ، ولرملهِ
رزنامة الرومان

تتساقطُ الكلماتُ كالأوراقِ في هذا الخريفِ
وترتعي في النهر كالحلفاءْ

في خطِّ أفـْـقِهِ يلتقي السّطحانِ:
لوحتهُ وعينُ الشاعر الرسّامِ
بعضُ عروقها سودُ ُ،وبعضُ عروقها بيضُ ُ
وكان النهرُ يسحلُ مرّةً ذهبًا ،
ويسحلُ فضّة ً.. أخرى
ويسحبُ ذيل شبّوطٍ
ويخفى،ثمّ ينجمُ فجأةً؛
حتـّى إذا أوْفـَى على سَدّ من الأغصانِ أغفى 
كالطريحِ، وكنتُ أسألُ:
ما الذي يخفيه؟
ماء أم حجرْ؟
الماء ضوء
ما الذي يخفيه؟
نهر آخرُ ُ؟
أُشفي عليه كأنّه موتي
و ضوء كان يهرب منه
وهو يطوف بي 
يلتفّ حول تعرّجات الماءْ؟

مازال يهطل في قصيدته المطر
مطر على آشور والثور المجنـّح
ـ كنت أسلكُ في الطريق إلى مدينة نينوى ـ
ظلان يرتعدانِ، لا شجرُ ُ هنا لهما سوى هذا المطرْ

ما زال يهطل طازجا
مطر لشَعر الأرض
للحلزون يلمس صمته
مطرُ ُ لقيّم خمرتي في خان مرجان ٍ 
أفكّرُ من خلال قصيدتي
وأرى ابنة الجلبيّ في كأس من'الساكي'
وقد فرغتْ
أراها وهي تنفذ من خيوط قصيدتي
في حَلـْـبة، في الليل، زالقةٍ،
أراها الآنَ تمثالا لعرض ملابس الأعيادِ
بنطالُ ُ قصيرُ ُ.. فروُ حملانٍ.. كَريبُ الصينِ
أين قميصها الشجريُّ؟
رفـّة جفـنها؟
كانت ترفّ ُ لنفسها في عـتْـمةِ المرآة

هي شرفة ُ ُ تدنو
سينفذ من خلال قميصها مطر إليَّ،
أراه إذ يسِمُ النخيلَ
أراه إذ يجترّ ُ أصواتا،ويهطل قاتما
ُويضيءُ هذا الليلَ مثل رئاتِ بحرك يا بويبُ
خيوطُ ماءٍ أمْ نباتُ ُ عارشُ ُ هذا المطرْ؟

السلّمُ الحلزونُ أبيضُ
بغتة ً ينحلّ ُ خيط ُ سمائه السوداءْ
مطرُ ُ يشقّ ُ طريقه بين الحروفِ
يقولُ ها ظلُّي عموديُّ ُ..طريقي صاعدُ ُ،
هل تستدلّ ُ على الطريقِ سوى يدِي؟
تسودّ ُ من ماءٍ ظلالُ ُ في الهواءِ
يقول ساءتْ صحّتي.. سأنامُ بعضَ الوقت ِ
هلْ أيقظتِـني؟ قولي أتلكَ منازلُ الأقنانِ
إذ ْ نمنا على العتباتِ
في الصمت الذي يرمدّ ُ في سرداب أمواتي
تـُرى أخفيتُ موتي عنكِ؟ 
ضوءُ ُ باردُ ُ يلوي عليَّ،
وثمّ ظل مثل كلب الصيد يزحف في دمي،متتبّعا في كلّ عرْقٍ أنفـَهُ
في النومِ نكبَـرُ يا وفيقة ُمثلما في الموتِ
حيثُ النهر مقبرة لأسماكي 
وحيثُ النهر عندي صورة وضريح ماءْ
***مطرُ ُ لنا
لعشائنا السريّ من دون الحواريّين، حيث أموت وحدي

ما زال يهطل في قصيدته المطر
لأحدّثنـّك لو يخفّ هنيهة عن هجرة الأسماكِ صاعدة ً إلى الينبوع
منصف الوهايبي
شاعر من تونس
من كتاب شعري غير منشور: العراقيّون أبناء قوس قزح*
أحدث أقدم

نموذج الاتصال