الشعر العربي عندما داخله الجمود والتكرار.. إفساد الشعر بصناعة المديح والرثاء بتأثير الحرية الشخصية



إذا اعتبرت الشعر العربي قبل خمسين سنة خلت "أي قبل إنشاء المقتطف" وتأملت حليته ومعرضه، ونظرت في منهاجه وطريقته، وتصفحت معانيه وأغراضه -لم تر منه إلا شبيهًا بما تراه من بقايا الورق الأخضر في شجرة ثقل عليها الظل فهو جامد مستوخم، وحم في ظلها شعاع الشمس فهو بارد يرتعد، فالحياة فيها ضعيفة متهالكة، لا هي تموت كالموت ولا هي تحيا كالحياة، وما ثم إلا ماء ناشف ورونق عليل ومنظر من الشجرة الواهنة كأنه جسم الربيع المعتل بدت عروقه وعظامه.

كان ذلك الشعر فاسد السبك، متخلف المنزلة، قليل الطلاوة، بين مديح قد أعيد كل معنى من معانيه في تاريخ هذه اللغة بما لا يحصيه إلا الملائكة الموكلون بإحصاء الكذب، وبين هجاء ساقط هو بعض المواد التي تشتعل بها نار الله يوم تطلع على الأفئدة، وبين غزل مسروق من القلوب التي كانت تحب وتعشق، وبين وصف لا عيب لموصوفه سواه، وشكوى من الدهر يشكو الدهر منها، وتحزن وبأس وندب تجعل ديوان الشاعر كما سمي أحد ظرفاء القرن الثاني عشر للهجرة ديوان أحد أصحابه "بالملطمة.." ورثاء كقراءة القراء في جنازات الموتى، لا فيها عظة السكوت ولا فائدة النطق، وتغمر كل ذلك أنواع من الصناعة بينة التعسف، ضعيفة التقليد، لا ترى المتأخر فيها مع المتقدم إلا قريبًا مما يكون عمل اللص في أخذ المال، من عمل صاحب المال في جميعه.

والعجيب أنك إذا اعترضت الشعر من القرن العاشر للهجرة إلى القرن الثالث عشر "السادس عشر للميلاد إلى التاسع عشر" رأيته نازلًا من عصر إلى عصر بتدريج من الضعيف إلى الأضعف، حتى كأنما ينحط بقوة طبيعية كقوة الجذب، كلما هبطت شيئًا أسرعت شيئًا إلى أن تلصق بالأرض، وبعضهم يسمي هذه العصور بالعصور المظلمة، ولم يتنبه أحد إلى أن في الأدب ناموسًا كناموس رد الفعل، يخرج أضعف الضعف من أقوى القوة، وأن انحطاط الشعر في تلك العصور -على أنه لم يكن إلا صناعة بديعية- إنما سببه القوة الصناعية العجيبة التي كانت للشعر منذ القرن السادس إلى العاشر.

بعد أن نشأ القاضي الفاضل المتوفى سنة 596هـ "1199م"؛ وكان رجلًا من الرجال الذين يخلقون حدودًا للحوادث تبدأ منها أزمنة وتنتهي عندها أزمنة؛ ففتن الناس بأدبه وصناعته، وصرف الشعر والكتابة إلى أساليب النكتة البديعية؛ وظهرت من بعده عصابته التي يسمونها العصابة الفاضلية، وما منهم إلا إمام في الأدب وعلومه، فكان في مصر القاضي ابن سناء الملك، وسراج الدين الوراق، وأبو الحسين الجزار، وأضرابهم.

وكان في الشام عبد العزيز الأنصاري، والأمير مجير الدين بن تميم، وبدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي، وأمثالهم؛ فهذه العصابة هي التي تقابل في تاريخ الأدب العربي عصابة البديع الأولى: كمسلم، وأبي تمام، وابن المعتز، وغيرهم؛ وكلتا الفئتين استبدت بالشعر وصرفته زمنًا، وأحدثت فيه انقلابًا تاريخيًّا متميزًا.

بيد أن العصابة الفاضلية بلغت من الصنعة مبلغًا لا مطمع في مثله لأحد من بعدها، حتى كأنهم لم يدعوا كلمة في اللغة يجري فيها نوع من أنواع البديع إلا جاءوا بها وصنعوا فيها صنعة؛ وكان بعضهم يأخذ من بعض ويزيد عليه، إلى آخر المائة الثامنة، فلم يتركوا بابًا لمن يأتي بعدهم إلا باب السرقة بأساليبها المعروفة عند علماء الأدب.

ولهذا لا تكاد تجد شعرًا عربيًّا بعد القرن التاسع إلا أول النهضة الحديثة، إلا رأيته صورًا ممسوخة مما قبله؛ وكل شعراء هذه القرون ليسوا ممن وراءهم إلا كالظل من الإنسان: لا وجود له من نفسه، وهو ممسوخ أبدًا إلا في الندرة حين يسطع في مرآة صافية.

ومتى كان الشعراء لا ينشئون إلا على فنون البلاغة وصناعاتها، وكانت هذه كلها قد فرغ منها المتقدمون؛ فما ثم جديد في الأدب والفن إلا ولادة الشعراء وموتهم، وإلا تغير تواريخ السنين.. وهذا إذا لم نعد من الأدب تلك الصناعات المستحدثة التي ابتدعها المتأخرون مما سنشير إلى بعضه: كالتاريخ الشعري وغيره.

إن الفكر الإنساني لا يسير التاريخ، ولا يقدر قدرًا فيه، ولا ينقله من رسم إلى رسم؛ لأنه هو نفسه كما خلق مصلحًا خلق مفسدًا وكما يستطيع أن يوجد يستطيع أن يفني، وكما تطرد به سبيل تلتوي به سبيل أخرى؛ وما أشبه هذا الفكر في روعته بقطار الحديد: يطير كالعاصفة ويحمل كالجبل ويدهش كالمعجزة، وهو مع كل ذلك لا شيء لولا القضيبان الممتدان في سبيله، يحرفانه كيف انحرفا، ويسيران به أين ارتميا، ويقفان به حيث انتهيا؛ ثم هو بجملته ينقلب لأوهى اختلال يقع فيهما.

لا جرم كانت العصور مرسومة معينة النمط ذاهبة إلى الكمال أو منحدرة إلى النقص، حسب الغايات المحتومة التي يسير بها الفكر في طريق القدر الذي يقوده.

فهذه علوم البلاغة التي أحدثت فنًّا طريفًا في الأدب العربي، وأنشأت الذوق الأدبي نشأته الرابعة في تاريخ هذه اللغة، بعد الذوق الجاهلي، والمحدث والمولد -هي بعينها التي أضعفت الأدب وأفسدت الذوق وأصارته إلى رأينا في شعر المتأخرين، كأنما انقلبت عليهم علومًا من الجهل، حتى صار النمط العالي من الشعر كأنه لا قيمة له؛ إذ لا رغبة فيه، ولا حفل به؛ لمباينته لما ألفوا وخلوه من النكتة والصناعة؛ وحتى كان في أهل الأدب ومدرسيه من لا يعرف ديوان المتنبي!

ولا يصف لك معنى الشعر في رأي أدباء ذلك العهد كقول الشيخ ناصيف اليازجي المتوفى سنة 1871:
مللت من القريض وقلت يكفيلأمر شاب قوته بضعف
أحاول نكتة في كل بيتوذلك قد تقصر عنه كفى
أجل الشعر ما في البيت منهغرابة نكتة أو نوع لطف

يريد النكتة البلاغية وأنواع البديع، وذلك ما قصرت عنه كفه وكف غيره؛ لأنه شيء مفروغ منه، حتى لا يأتي المتأخر بمثال فيه إلا وجدته بعينه لمن تقدموه على صور مختلفة ينظر بعضها إلى بعض وما يأتي اختلافها إلا من ناحية الحذق في إخفاء السرقة بالزيادة والنقص، والإلمام والملاحظة والتعريض والتصريح وغيرها مما يعرفه أئمة الصناعة، ولا يتسبب إليه بأقوى أسبابه إلا من رزق القوة على التوليد والاختراع.

إذا عرفت ذلك السر في سقوط الشعر واضطرابه وسفسفته، لم تر غريبًا ما هو غريب في نفسه، ومن أن بدء النهضة الشعرية الحديثة لم تكن العلم الذي يصحح الرأي، ولا الاطلاع الذي يؤتي الفكر، ولا الحضارة التي تهذب الشعور، ولا نظام الحكم الذي يحدث الأخلاق، وإنما كان ضربًا من الجهل وقف حدًّا منيعًا بين زمن فنون البلاغة وبين زماننا.

وكان كالساحل لذلك الموج المتدفع الذي يتضرب على مدة ثمانمائة سنة من القرن السادس إلى الرابع عشر للهجرة؛ ولله أسرار عجيبة في تقليب الأمور وخلق الأحداث ودفع الحياة الفكرية من نمط إلى نمط، وإخراج العقل المبتدع من هيئة إلى هيئة، وجعل بعض النفوس كالينابيع للتيار الإنساني في عصر واحد أو عصور متعاقبة، وإقامة بعض الأشخاص حدودًا على الأزمنة والتواريخ؛ فكان الذي أحدث الانقلاب الرابع في تاريخ الشعر العربي، وأنشأ الذوق نشأته الخامسة، هو الشاعر الفحل محمود باشا البارودي الذي لم يكن يعرف شيئًا البتة من علوم العربية أو فنون البلاغة؛ وإنما سمَت به الهمة؛ لأنه حادثة مرسلة للقلب والتغيير، فأبعده الله من تلك العلوم، وأخرجه لنا من دواوين العرب.

كما نشأ مثل ابن المقفع والجاحظ من فصحاء الأعراب، ويسر له من أسباب ذلك ما لم يتفق لأحد غيره مما لا محل لبسطه هنا، ولا تكاد تجد شعر أديب متأخر يستقيم له أن يذكر في شعر كل عصر من لدن زمننا إلى صدر الإسلام ثم لا تنحط مرتبته غير كلام البارودي هذا؛ وهو وحده الذي يقابل القاضي الفاضل في أدوار التاريخ الأدبي، على بعد ما بينهما؛ لأن شعره هو الذي نسخ آية الصناعة، ودار في ألسنة الرواة، وكان المثل المحتذى في القوة والجزالة ودقة التصوير وتصحيح اللغة؛ ولم يشأ الله أن يسبقه إلى ذلك أحد؛ لأن النهضة الاجتماعية في هذا الشرق العربي كانت في علم الله مرهونة بأوقاتها وأسبابها.

ولولا ذلك لسبقه شاعر القرن الحادي عشر الأمير منجك المتوفى سنة 1080هـ "1669م"؛ فقد اتفقت لهذا الأمير نشأة كنشأة البارودي، فكان كثير الحفظ من دواوين العصور الأولى، وكان يقلد أبا فراس الحمداني ويحتذي على مثاله؛ ولكن عصره كان في العصور الهالكة، فخرج الشاعر ضعيفًا كما يخرج كل شيء في غير وقته ولغير تمامه وبغير وسائله الطبيعية.

ونشأت العصابة البارودية وفيها إسماعيل صبري وشوقي وحافظ ومطران وغيرهم، وأدركوا ما لم يدركه البارودي وجاءوا بما لم يجئ به، واتصل الشعر بعضه ببعضه، وسارت به الصحف، وتناقلته الأفواه، وأنسي ذكر البلاغة وفنونها بالنشأة المدرسية الحديثة التي جعلت من ترك البلاغة بلاغة؛ لأنها صادفت أوائل الانقلاب ليس غير؛ وبذلك بطل في مصر عصر أبي النصر والليثي والساعاتي والنديم وطبقتهم، وفي الشام عصر اليازجي والكستي والأنسي والأحدب وأضرابهم، وفي العراق عهد الفاروقي والموصلي والبزاز والتميمي وسواهم؛ واستقل الشعر عربيًّا وخرج كما يخرج الفكر المخترع ماضيًا في سبيل غير محدودة.

لا ريب في أن الطرق التي تتبع في تربية الأمة وتكوين روحها العالمية لا بد أن يكون لها أثر بين في شعر شعرائها؛ فإنما الشعر فكر ينبض وعاطفة تختلج، وما أرى الشاعر الحق من أمته إلا كالزهرة الصغيرة من شجوتها: إن لم تكن خلاصة ما فيها من القوة، فهي خلاصة ما في الشجر من معنى الجمال ولونه وملمسه، ولا تعدم مع هذه الصفة أن تكون وحدها الكوكب الساطع في هذا الأفق الأخضر كله، ولقد اطردت النهضة منذ خمسين سنة أو حولها، في الأدب والعلم؛ وفي الفكر والفن والصناعة؛ وساتوى لنا من ذلك ما لم يتفق لهذه الأمة في عصر من عصورها، حتى بلغنا من ذلك أن صرنا كأنما فتحنا أرضًا من أوربا وتغلبنا عليها، أو أنشأنا أوربا عربية وما نزال نعمرها وننقل إليها العلوم والفنون والآداب، ونستخرج لها الأمثلة والأساليب.

غير أن الشعر العربي مع هذا كله لم يوف قسطه ولم يبلغ مبلغه في مجاراة هذه النهضة قوة ابتكار وسلامة اختراع وحسن تنوع، لسببين: الأول أنه لا يزال كما كان منذ فسدت اللغة العربية: شعر فئة لا شعر أمة، فهو يوضع للخاصة لا للشعب.

ويدور مع الأغراض والحاجات لا مع الطبائع والأذواق؛ وذلك لو تأملت هو من بعض الأسرار في سمو هذا الشعر وقوة إحكامه وإبداع تنسيقه وجمال توشيحه منذ الدولة العباسية إلى القرن الخامس؛ ثم انحطاطه بعد ذلك وتدنيه شيئًا فشيئًا حتى بلغ الدرك الأسفل في العصور المتأخرة؛ إذا كانت الفئة التي يوضع لها ويصف أهواءها وأغراضها وتتقبله وتثيب عليه وتحسن وزنه ونقده، هي في الناحيتين كما ترى من طرفي المنظار الذي يقرب البعيد، فهي بالنظر في أوله واضحة جلية مترامية إلى الجهات، وبالنظر في آخره ضئيلة ممسوخة لا تكاد تعرف.

وما أقضي العجب من غفلة بعض الكتاب في هذا الزمن إذ يناهضون العربية ويزرون على الفصاحة ويعملون على انكماش سوادها وتقليل أهلها، وما يدرون أنهم بذلك يسقطون الشعر قبل الكتابة على خطأ أو عمد وقلما تجد واحدًا من هؤلاء يحسن معالجة الشعر، فإن أصبت له شعرًا وجدته لا غناء فيه أو في أكثره، وأين وضعت يدك منه لم تخطئ أن تقع على مثل مما يمثل به لعيب من عيوب البلاغة.

وهذه النهضة التي نحن في صدد الكلام عنها أوسع مدى وأوفر أسبابًا من تلك التي كانت في الدولة العباسية، بما دخلها من أدب كل أمة، وما اتصل بها من أساليب الفكر: ولكن أين رجال الفصاحة المتمكنون منها، المتعصبون لها العاملون على بثها في الألسنة، مع أن عصرهم أوسع من عصر الرواة، بكثرة ما أخرجت المطابع من أمهات الكتب والدواوين، حتى أغنت كل مطبعة أدبية عن راوية من أئمة الرواة.

والسبب الثاني الذي من أجله لا يزال الشعر متخلفًا عن منزلته الواجبة له سقوط فن النقد الأدبي في هذه النهضة؛ فإن من أقوى الأسباب التي سمت بالشعر فيما بعد القرن الثاني وجعلت أهله يبالغون في تجويده وتهذيبه، كثرة النقاد والحفاظ. وتتبعهم على الشعراء، واعتبار أقوالهم، وتدوين الكتب في نقدهم، كالذي كان في دروس العلماء وحلقات الرواية ومجالس الأدب، وكالذي صنفه مهلهل بن يموت في نقد أبي نواس وأحمد بن طاهر، وابن عمار في أبي تمام، وبشر بن تميم في البحتري، والآمدي في الموازنة، والحاتمي في رسالته، والجرجاني في الوساطة، وما لا يحصى من مثل هذه الكتب والرسائل، وأنت من النقد في هذه النهضة بين اثنين: صديق هو الصديق أو عدو هو العدو.. فإن ابتغيت لهما ثالثًا فكاتب لا تتعادل وسائل النقد فيه فلا خير في كلامه.

أما الناقد الذي استعرض علم العربية وآدابها، وكان شاعرًا كاتبًا قوي العارضة، دقيق الحس ثاقب الذهن، مستوي الرأي بصيرًا بمذاهب الأدب متمكنًا من فلسفة النقد مبرزًا في ذلك كله- فهذا الخيال يذكرني كلمة قلتها يومًا للبارودي إذ قلت له: إن الشاعر لا يكون لسان زمنه حتى يوجد معه الناقد الذي هو عقل زمنه؛ فقال: ومن ناقد الشعر في رأيك؟ قلت: الكاتب وهو شاعر، والأديب وهو فيلسوف، والمصلح وهو موفق؛ فكأنما هولت عليه حتى قال -رحمه الله- "فين دا كله؟" قلت: فلعله لا ينشئ لنا هذا العقل الملتهب إلا العصر الذي يوجد لنا أسطولًا كأسطول انجلترا.

وعلى ما نزل بالشعر العصري من هذين السببين فقد استقلت طريقته وظهر فيه أثر التحول العلمي والانقلاب الفكري، وعدل به أهله إلى صور الحياة بعد أن كان في أكثره صورًا من اللغة، وأضافوا به مادة حسنة إلى مجموعة الأفكار العربية، ونوعوا منه أنواعًا بعد أن كان كالشيء الواحد، واتسعت فيه دائرة الخيال بما نقلوا إليه من المعاني المترجمة من لغات مختلفة.

وهو من هذه الناحية أوسع من شعر كل عصر في تاريخ هذه اللغة: إذ كان الأولون إنما يأخذون من اليونانية والفارسية، ثم أخذ المتأخرون قليلًا قليلًا من التركية؛ أما في العهد الأخير فيكاد العقل الإنساني كله يكون مادة الشاعر العربي، لولا ضعف أكثر المحدثين من النشء الجديد في البيان وأساليبه، وبعدهم من ذوق اللغة واعتياص مرامها عليهم، حتى حسبوا أن الشعر معنى وفكر، وأن كل كلام أدى المعنى فهو كلام، ولا عليهم من اللغة وصناعتها، والبيان وحقيقته؛ وحتى صرنا والله من بعض الغثاثة والركاكة والاختلال في شر من توعر نظم الجاهلية وجفاء ألفاظه وكزازة معانيه؛ وهل ثم فرق بين أن تنفر النفس من الشعر؛ لأنه وعر الألفاظ عسير الاستخراج شديد التعسف، وبين أن تمجه؛ لأنه ساقط اللفظ، متسول المعنى، مضطرب السياق؟

ثم تراهم ينجزون الشعر كله على اختلاف أغراضه نمطًا واحدًا من تسهيل اللفظ ونزوله، حتى كأن هذه اللغة لا تنوع في ألفاظها وأجراس ألفاظها، مع أن هذا التنوع من أحسن محاسنها وأخص خصائصها دون غيرها من اللغات، كما أن كل تنوع هو من أبدع أسباب الجمال والقوة في كل فن؛ ولا يدري أصحابنا أن كل ذلك من عملهم عبث في عبث إذا هم لم يعطوا الشعر حقه من صناعة اللغة.

وهذا شاعر الفرس الشهير مصلح الدين السعدي الشيرازي إمام من أئمة البلاغة في قومه لا يدفع مكانه وشعره مثل من أسمى الأمثلة في جمال المنطق الروحي، وليس في الناس إلا من يسلم له هذا المحل من النبوغ، وهو مع ذلك حين نظم الشعر لم تنفعه نافعة من حكمة أو خيال أو فكر، وذهب في التعسف كل مذهب، وحمل على كلامه من العيوب ما لم يسلم معه إلا صحة الوزن، كقوله في وصف نكبة بغداد وتخريبها:
فقد ثكلت أم القرى ولكعبةمدامع في الميزان تسكب في الحجر
على جدر المستنصرية ندبةعلى العلماء الراسخين ذوي الحجر
نوائب دهر ليتني مت قبلهاولم أر عدوان السفيه على الحبر
محابر تبكي بعدهم بسوادهاوبعض قلوب الناس تألف بالغدر
لحى الله من تسدي إليه بنعمةوعند هجوم اليأس أحلك من حبر

فانظر أي شعر هذا في الركاكة والهذيان والسخف، وفي خمود الفكر وضعف الروح وذهاب الرونق، وتأمل كيف هوى به السعدي من مكانته التي بوأه إياها أدبه العالي، وكيف سقط إلى حيث ترى، مع أنه في محراب الفكر إمام وراءه صفوف من عصور البلاغة.
ومن ههنا نشأ في أيامنا ما يسمونه " الشعر المنثور"، وهي تسمية تدل على جهل واضعها ومن يرضاها لنفسه؛ فليس يضيق النثر بالمعاني الشعرية، ولا هو قد خلا منها في تاريخ الأدب.

ولكن سر هذه التسمية أن الشعر العربي صناعة موسيقية دقيقة يظهر فيها الاختلال لأوهى علة ولأيسر سبب، ولا يوفق إلى سبك المعاني فيها إلا من أمده الله بأصح طبع وأسلم ذوق وأفصح بيان؛ فمن أجل ذلك لا يحتمل شيئًا من سخف اللفظ أو فساد العبارة أو ضعف التأليف، ولا تستوي فيه أمسى المعاني مع شيء من هذه العلل وأشباهها، وتراه يلقي بمثل "السعدي" من الفلك الأعلى إلى الحضيض، لا يقيم له وزنًا ولا يرعى له محلًا ولا يقبل فيه عذرًا ولا رخصة.

غير النثر يحتمل كل أسلوب، وما من صورة فيه إلا ودونها صورة إلى أن تنتهي إلى العامي الساقط والسوقي البارد؛ ومن شأنه أن ينبسط وينقبض على ما شئت منه، وما يتفق فيه من الحسن الشعري فإنما هو كالذي يتفق في صوت المطرب حين يتكلم لا حين يغني: فمن قال: "الشعر المنثور" فاعلم أن معناه عجز الكاتب عن الشعر من ناحية وادعاؤه من ناحية أخرى.

والذي أراه جديدًا في الشعر العربي مما أبدعته هذه النهضة أشياء:

- أولًا: هذا النوع القصصي الذي توضع فيه القصائد الطوال، فإن الآداب العربية خالية منه؛ وكان العرب ومن بعدهم إذا ذكروا القصة ألموا بها اقتضابًا وجاءوا بها في جملة السياق على أنها مثل مضروب أو حكمة مرسلة أو برهان قائم أو احتجاج أو تعليل وما جرى هذا المجرى مما لا ترد فيه القصة لذاتها ولا لتفصيل حوادثها؛ وهو كثير في شعر الجاهليين والإسلاميين، والجيد منه قليل حتى في شعر الفحول؛ فإن طبيعة الشعر العربي تأباه؛ والذين جاءوا به من العصريين لا يجدون منه إلا قطعًا تعرض في القصيدة وأبياتًا تتفق في بعض معانيها وأغراضها مما يجري على أصله في سائر الشعر طال أو قصر.

والسبب في ذلك أن القصة إنما يتم تمامها بالتبسط في سردها وسياقة حوادثها وتسمية أشخاصها وذكر أوصافهم وحكاية أفعالهم وما يداخل ذلك أو يتصل به.

وإنما بني الشعر العربي في أوزانه وقوافيه على التأثير لا على السرد، وعلى الشعور لا على الحكاية؛ ولا يريدون منه حديث اللسان ولكن حديث النفس.

فهو في الحقيقة عندهم صناعة روحية يصنعون بها مقادير من الطرب والاهتزاز والفرح والحزن والغضب والحمية والنزعة؛ فلا جرم كان سبيلهم إلى ذلك هو التحديد لا الإطلاق، وضبط المقادير لا الإسراف؛ إذ كان من شأن هذه الأمور في طبيعة النفس أن ما زاد منها عن مقداره تحول وانقلب في تأثيره، وذلك هو السبب أيضًا في أن هذا الشعر ما لم يكن قائمًا على اختيار اللفظ وصنعة العبارة وتصفيتها وتهذيبها واختيار الوزن للمعنى وإدارة الفكر على ما يلفت من ضروب المجاز والاستعارة ونحوها- سقط ورك بمقدار ما ينقصه من ذلك.

وليس الشأن في إطالة القصيد؛ فمن الشعراء من نظم رويًّا واحدًا في أربعة آلاف بيت، ومنهم من نظم تفسير القرآن كله؛ ولكن عيب مثل هذا الشعر في العربية أنه شعر... وما أخمل ابن الرومي على جلالة محله إلا طول قصائده وسياقه الكلام فيها مع ذلك على ما يشبه أسلوب الحكاية وخروجها مخرج المقالة يتحدث بها، فلم تَحْيَ له إلا مقطعات وأبيات ومات سائر شعره وهو حي وميت على السواء، حتى قال فيه صاحب الوساطة: "ونحن نستقرئ القصيدة من شعره وهي تناهز المائة أو تربي أو تضعف، فلا نعثر فيها إلا بالبيت الذي يروق أو البيتين، ثم قد تنسلخ قصائد منه وهي واقفة تحت ظلها جارية تحت رسلها لا يحصل منها السامع إلا على عدد القوافي..".

والعجيب أن بعض الكتاب في عصرنا ممن لا تحقيق لهم في مثل هذه المسائل، يعدون أحسن محاسن ابن الرومي ما هو أقبح عيوبه، وقاتل الله صناعة الكتابة، فكما أنها لملء الفراغ هي كذلك لإفراغ الملآن..

- ثانيًا: صياغة بعض الشعر على أصل التفكير في الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما من لغات الأمم، فيخرج الشعر عربيًّا وأسلوبه في تأدية المعنى أجنبي؛ وأكثر ما يأتي هذا النوع من أمريكا، وأنا أعجب بكثير منه لما فيه من الغرابة والحسن.

وما زالت أجناس الأمم يضيق بعضها بأشياء ويتسع بعضها بأشياء فلسنا مقيدين بالفكر العربي ولا بطريقته، وعلينا أن نضيف إلى محاسن لغتنا محاسن اللغات الأخرى؛ ولكن من غير أن نفسدها أو نحيف عليها أو نبيعها بيع الوكس؛ ومتى كان هذا النوع من الشعر رصينًا محكمًا جيد السبك رشيق المعرض، كان في النهاية من الرقة والإبداع؛ ولم يأت التجديد في هذه اللغة إلا من هذه الناحية، كالذي تراه فيما أخذ عبد الحميد وابن المقفع من نمط الأداء في اللغة الفارسية.

- ثالثًا: الانصراف عن إفساد الشعر بصناعة المديح والرثاء، وذلك بتأثير الحرية الشخصية في هذا العصر؛ والمدح إذا لم يكن بابًا من التاريخ الصحيح لم يدل على سمو نفس الممدوح، بل على سقوط نفس المادح؛ وتراه مدحًا حين يتلى على سامعه، ولكنه ذم حين يعزى إلى قائله! وما ابتليت لغة من لغات الدنيا بالمديح والرثاء والهجاء ما ابتليت هذه العربية؛ ولذلك أسباب لا محل لتفصيلها.

- رابعًا: الإكثار من الوصف والإبداع في بعض مناحيه والتفنن في بعض أغراضه الحديثة: وذلك من أسمى ضروب الشعر، لا تتفق الإجادة فيه والإكثار منه إلا إذا كان الشعر حيًّا، وكانت نزعة العصر إليه قوية، وكان النظر فيه صحيحًا؛ ولما وصف الشيخ أحمد الكردي "من شعراء القرن الثاني عشر" السفينة واستهل بهذا الوصف مدح الوزير راغب باشا، عدُّوا ذلك حادثة من حوادث الأدب في عصره فتأمل!

- خامسًا: إهمال الصناعات البديعية التي كان يبنى عليها الشعر، فينظم البيت؛ ليكون جناسًا أو طباقًا أو استخدامًا أو تورية... الخ، أو ضربًا آخر من صناعة العدد والحساب، كالتاريخ الشعري بأنواعه، أو صناعة الحرف، كالمقلوب والمهمل وغيرهما: أو صناعة الفكر، كاللغز والمعمى؛ أو صناعة الوضع كالتشجير والتطريز، إلى ما يلتحق بهذا الباب الذي ذهب أهله فلا يتيسر لأحد من بعدهم أن يجاريهم فيه، وكانت لهم في كل ذلك عجائب استقصيناها بالتدوين في موضعها من "تاريخ آداب العرب".

بيد أن إهمال صناعة البديع شيء وإهمال فن البديع نفسه شيء آخر؛ ومن هنا جاء ما نراه في بعض الشعر الحديث "والشعر المنثور" من الإغراق السخيف الذي لا يقوم على أصل، من التعدي في ضروب الاستعارة، والبعد في المجاز، والإحالة في الوضع، ونحوها مما يرجع إلى الجهل بطبيعة البلاغة، ومما لا نعده إلا ضربًا من الفساد يلتحق بما كان في العصور الماضية وإن كان على الضد منه.

- سادسًا: النظم في الشؤون الوطنية والحوادث الاجتماعية، مما يجعل الشعر محيطًا بروح العصر وفكره وخياله، وهو باب لا ينهض به إلا أفراد قلائل، ولا يزال ضعيفًا لم يستحكم؛ وقد قالوا: إن للقاضي الفاضل اثني عشر ألف بيت في مدح الوطن والحنين إليه، ولكن لا أحسب أن بها مائة من نحو ما ينظم في هذا العصر مما أدى بالشعر إلى أن يدخل في باب السياسة ويعد من وسائلها، وفي طرق التربية ويعد من أسبابها.

- سابعًا: اسخراج بعض أوزان جديدة من الفارسية والتركية، وهو قليل، جاء به شوقي في قصيدتين ولم يتابعه أحد؛ لإفراط ذلك الوزن في الخفة حتى رجع إلى الثقل.. ثم نظم بعض الشعر من أوزان مختلفة قريبة التناسق على قاعدة الموشح، ولكنه شعر لا توشيح، كما ينظم بعض شعراء أمريكا وسوريا؛ ولم يحدث مثل ذلك في العربية، فإن القصيدة كانت تنظم من بحر واحد، وقد يخرج منه وزن آخر: ولا نعرف في تاريخ الأدب قصيدة تتألف من وزنين إلا الذي قالوا إن حسين بن عبد الصمد المتوفى سنة 984هـ "1576م" قد اخترعه ونظم فيه أبياته التي مطلعها:
فاح عرف الصبا وصاح الديكوانثنى البان يشتكي التحريك
قم بنا نجتلي مشعشعةتاه من وصفه بها النسيك

وعارضها ولده الإمام الشهير بهاء الدين العاملي صاحب الكشكول بأبيات قالوا: إنها سارت في عصره مسير المثل، ونسج عليها شعراء ذلك العصر، كالنابلسي وغيره، ومطلعها:
يا نديمي بمهجتي أفديكقم وهات الكؤوس من هاتيك
خمرة إن ضللت ساحتهافسنا نور كأسها يهديك

على أن هذا الوزن بشطريه مستخرج من الخفيف، فليس باختراع كما زعموا، وإنما هو ابتداع في التأليف الشعري؛ وقد اجتزأنا بما مرت الإشارة إليه، فإنه كل ما تغير به الرسم في هذه الصناعة؛ وتركنا الأمثلة تفاديًا من الإطالة.

وبعد فلا ريب أن النفس البشرية في حاجة أبدًا مع دينها الروحي إلى دين إنساني يقوم على الشعور والرغبة والتأثير، فيفسر لها حقائق الحياة، ويكون وسيلة من وسائل تغييرها؛ ليجعلها ألطف مما هي في اللطف؛ وأرق مما تكون في الرقة، وأبدع مما تتفق في الإبداع؛ ذلك الذي يصل بظهوره وإبهامه بين الواضح والغامض، والخالد والفاني؛ ذلك الذي لا يجمل الجمال إلا به، ولا تسكن النفس إلا إليه؛ ذلك هو الشعر!
مصطفى صادق الرافعي