كشف النقاب عن البنية التركيبية والجمالية للنص العربي القديم.. الاستشراق العلمي ليس دائماً خصماً للمعرفة



بالتعاون مع الدار العربية للعلوم، ومنشورات الاختلاف، ودار الأمان صدر في بيروت كتاب 'ترجمة النص العربي القديم وتأويله عند ريجيس بلاشير' للباحثة 'حورية الخمليشي' من المغرب.

دراسة هامة تكشف النقاب عن البنية التركيبية والجمالية للنص العربي القديم، التي هي رهينة بمدى قدرة المترجِم على مراعاة طرق الأداء اللغوي والاختلافات الحضارية.

وتظل مسألة الذوق والعشق والموهبة في الترجمة الأدبية بؤرة الترجمة ونواتها، إلا أن هذا العشق كما ترى يُشترط أن يكون واعياً باستراتيجية الترجمة الأدبية وتصورها العام الذي يحكمها لتأويل مُتخيل النص انطلاقاً من طروحات ثقافية إبداعية.

من هذا المنطلق دأبت الباحثة على دراسة الخصائص التي يجب أن يتسم بها المترجِم الأدبي، لتصبح الترجمة بهذا المفهوم ذات طابع إشكالي حينما تتعلق بترجمة نصوص إبداعية، وهو أمر لا يتيسر لأي مترجم.

وقد اتخذت الكاتبة في دراستها واحداً من أكبر علماء الاستشراق الفرنسي الذين عشقوا أدب الشرق لأدبية الأدب لا غير، جاعلاً من المعرفة همّه الأساسي وهو ريجيس بلاشير الذي كان من أنصار الحضارة العربية، ومن دعاة الحرية والتحرر في الأقطار العربية.

وهي أول دراسة شاملة لأعمال بلاشير تُعرِّف بدوره الإشعاعي في التعريف بالتراث العربي القديم وبشخصياته المبدِعة، إلا أن الكاتبة تطرح عدة تساؤلات:

لماذا هذا الاستشراق؟
ولماذا الاهتمام بترجمة أدب العرب؟
وما موقع هذه الترجمات في سياق حركة الاستشراق؟

ألا ترتبط هذه الترجمة بوضعية الثقافة للشعوب المستعمرة؟
ألا تمثل هذه الترجمات إيديولوجية استعمارية؟

وإذا كان الأمر كذلك فما هو الجهاز الذي جعل بلاشير يجعل المتنبي شاعراً كبيراً، وما الذي جعله يُعرِّف بشعره في الثقافة العالمية؟

وإلى أي حد نجح بلاشير في رسم صورة ثقافة وحضارة الآخر وهي حضارة لا تتساوى مع حضارة 'المركز'؟

وقد حاولت الكاتبة دراسة المترجمات الأدبية لريجيس بلاشير، وكذلك ترجمته للقرآن الكريم ولديوان المتنبي ولنماذج إبداعية من الشعر والنثر بغية تقليص المسافة بين التنظير والممارسة عنده، ولتوضح للقارئ بأن فعل الترجمة هو أولاً وقبل كل شيء ممارسة نصية مشروطة بضوابط الترجمة والتأويل.

وقسمت الباحثة عملها على المستوى النظري والمنهجي إلى أربعة أقسام: القسم الأول جاء بعنوان 'ترجمة النص العربي وتأويله عند بلاشير'، ويتكون من فصلين.

حاولت في هذا القسم تحديد مفهوم الاستشراق والمستشرِق، الذي هو حسب الباحثة 'عالِم ملمٌّ بدراسة الشرق وهو حركة علمية تعنى بكل ما يتعلق بالشرق من علوم مختلفة..' (ص. 18).

وأشارت الباحثة إلى أن ما يميز تعريف بلاشير في معجمه 'العربي الفرنسي الإنكليزي' وباقي التعريفات هو 'رصده الفرق الدقيق بين النقل والترجمة والتفسير والتأويل' (ص 53).

كما شرحت منهجية بلاشير في تعليم اللغة العربية للأعاجم، وموقفه من بعض القضايا الأدبية في دراسته وترجمته لتاريخ الأدب العربي.

وقد جاء القسم الثاني بعنوان الممارسة النظرية عند ريجيس بلاشير.
ويتكون من ثلاثة فصول. رصدت فيه الباحثة الممارسة النظرية عند ريجيس بلاشير في ترجمته للقرآن الكريم. فأشارت إلى أن بلاشير في هذه الترجمة استشعر صعوبة شرح معانيه، وصعوبة الاختيار بين الروايات المختلفة والتأويلات المتنوعة 'لكنه لا ينفي وجود شرح يستند إلى الإيمان بالعقل حينما تنال هذه التفسيرات التأييد والإجماع' (ص 59)، وهذه الترجمة لم تسلم من بعض الأخطاء التأويلية واللغوية رغم ضلوعه في قواعد اللغة العربية وآدابها (ص 59- 60).

كما تناولت ترجمته للشعر والنثر العربي. فقد ترجم بلاشير نماذج من فحول شعراء العربية كامرئ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والخنساء، والمعري، وبشار ابن برد... بالإضافة إلى دراسته وترجمته لأكبر شاعر عربي وهو أبو الطيب المتنبي (ص 70).

وأما القسم الثالث فيتناول الممارسة النصية عند ريجيس بلاشير. حاولت فيه الباحثة توضيح منهجية بلاشير في تأويل معاني القرآن، وتأويل المعاني الشعرية ومدى اتباعه للقواعد التي وضعها هو أصلاً لهذه الترجمة.

كما تناولت الباحثة دراسة بلاشير وترجمته لأدب المقامة وأدب الأمثال والمعاجم والموسوعات والمخطوطات وعلم الجغرافيا.

والقسم الرابع والأخير جاء بعنوان 'المدرسة البلاشيرية في الأدب العربي'، ويتضمن فصلين.
اهتمت الباحثة في هذا القسم بنماذج من أعلام مدرسة بلاشير وامتداداتها.

فبلاشير مدرسة أدبية متميزة في دراسة التراث العربي القديم وترجمته.
وهي ذات إشعاع عالمي يمثلها جيل من الأدباء اللامعين العرب وغير العرب في دراسة الأدب العربي وترجمته سواء من طلبته أو من طلبة طلبته الذين تأثروا بشخصية بلاشير العلمية في مواضيع البحث ومنهجيتها وتصورها وحدودها، وفي عشقهم الفريد للغة العربية ودراسة التراث العربي ( ص 156).

وقد امتدت هذه المدرسة إلى كل أقطار العالم العربي وغير العربي.
من أهم أعلامها جون سوفاجي، وأندري ميكيل، وشارل بيلا، وابراهيم الكيلاني، وأمجد الطرابلسي... وكذلك نماذج من امتدادات هذه المدرسة البلاشيرية ،كإدريس بلمليح، وأحمد بوحسن، وعباس أرحيلة، ومحمود المقداد.

وخلُصَت الباحثة إلى أن الاستشراق العلمي ليس دائماً خصماً للمعرفة. فثقافة الإبداع فيه أكثر حضوراً من ثقافة الغزو الفكري والحضاري.

ولعل موقف بعض المثقفين العرب الحذر من الاستشراق هو الذي جعل بعض الشخصيات يتم السكوت عنها في الثقافة العربية كريجيس بلاشير.

كما أن دراساته وترجماته للنص العربي القديم من الترجمات القيمة لما يطبعها من رؤية عاشقة لقراءة الحضارة العربية، بدا فيها بلاشير الفرنسي عاشقاً للعروبة والإسلام.
آية العلمي - باحثة من المغرب