النظر والخيال في قصص سعيد الكفراوي.. عمل من نسج التجربة وبنائها

النظر والخيال في قصص سـعـيد الكفراوي:
1- الكتابة عن سعيد الكفراوي تعني أولا الحديث عن قاص استغرق أزيد من نصف عمره (1939) في بناء ونسج تجربته القصصية، مفردة، وإلى جوار الرعيل المجدد للسرد العربي الحديث منذ نهاية ستينات القرن الماضي.

إنها تعني ثانيا الانطلاق من تراكم متواشج ومنتج، انخرطت فيه إرادة مبدعة ضمن مشروع قصد إلى تجديد شباب السرد التخييلي، معه تحول هذا الفعل إلى وعي منظم ونسقي يتلألأ إشراقه في كل نص تجترحه، كما يتنضد فهما للإنسان والحياة مرتبطا بقوة الكلمة وسحرها ليتخذ من الأدب تعبيرا له.

لهذا فهي تجربة فردية وجماعية، تستحق التوقير، لأن أصحابها أنجزوا فعلا مشروعا إبداعيا يدخلهم إلى تاريخ أدبنا الحديث من بابه الواسع، ونحتاج تبعا لذلك وانطلاقا من كل منجز شخصي على حدة إلى أن ننظر إليهم في كلية مركبة، ونتجنب ما أمكن الفصل الذي يصادر على المطلوب الفني، هو السائد في قراءة نتاجنا الأدبي، فيفكك أوصاله، ويقصر عن الذهاب إلى منابعه الجوفية.

2- تطرق كتابة سعيد الكفراوي فن القصة القصيرة، وهو جنس أدبي غربي صرف، دقيق التكوين، كثيف التركيب كتضاريس الأرض، منساب كنهر، تكفيه نظرة، وتستوعبه أسطر أحيانا، لكنه عميق الغور، بعيد المنال، ولذلك يسقط في امتحانه من يركبون سفينَه غفلة وهم من الغافلين. يغويهم مَدّه، وهو قليل، بينما الجزْر فيه أشد، لأنه يستبطن، ويُلمّح، وقوامه القول المقتضب، ومنحاه، بعد الهيكلة المادية، والوصفية البانية، الإشارةُ الخفية والصورة الموحية.

لا عجب أن لا يسلس قياده إلا لمن جد وثابر، ونظر وصابر، وعرف كيف يلتقط، ولم يأخذ من المعطى إلا ما يستحق أن ُيلتقط. الرصد عند صاحبه قصبة صياد، والمشهد العابر، أو الإحساس النادر، مثله فيض الخاطر، طُعمٌ، والدلالة مستورة تارة وظاهرة أخرى هي الصيد.

والكفراوي من هذه الجبلّة، خلقُها لعمري قليل، والمجيدون في بابها أقل، وهذا طبعا أفضل وأجلّ، وإن كانوا لا يعاشرون عادة إلا حفنة مريدين وعشاق، يعلمون سلفا أن هذه الكتابة ضرب من العبادة، تحتاج إلى التبتل، قائمة على الحدس والسر بالكلم الوجيز والحكي الغميس. جمهورها نحلة لا شعب، ودستورُها نبراس في السرائر لا قوانين معلنة على الملأ. لا تعجبن إذن أن يكون الكفراوي واحدا ممن سكن محرابها، صار من سدنة معبدها، ولذا لا يمكن لأي عاشق كلِفٍ بهواها إلا أن يخطب ودّه، وهو يرتل مزموره قارئا متبتلا ويحفظ لوحَه.

3- وأنا لم أتخلف عن هذا العشق، ولا أبطأت في الاقتراب منه، اللهم خوفا من لفح ناره، على معرفتي بأنها برد وسلام عليّ، إذ قبستُ منها مرارا، ومن جبلها آنست وما أزال، أعتبر دوام الأنس بها والكتابة بخطها إخلاصا لكلمة الله أودعها في صدر الإنسان جوهرة تشع، ونبعا ما ينفك يفيض، يسقي الصادي، ولكل حائر ملتاع هو الهدي والهادي. ولا انتظرت ليشتهر صاحب هذه الكتابة، فيصبح شيخا في طريقته، ويتنادى للتمسّح بركبه الشادي والعادي، كي أقبل عليه، ويصير لي معه حوار، بعد أن التحم بيننا ودّ وجوار، وحتى ما لا يفسد للودّ قضية.

ولكني نظرت وسمعت بين ما يضرب هذه الأيام السمع والبصر في باب الأدب عامة، والقصة خاصة، وهالني نعيبٌ من هنا كثير، ونقيقٌ من هنا زعيق، ذا يندب حظ القصة القصيرة العاثر، ينعاها دون استئذان أو ترتيب لتشييع، وذاك يقيم لها مجالس زارٍ على لحم أحياءَ حوّلهم رِمماً، قصّر عمرهم بتقصير نصها أو تشويهه ليصير على قزم المواهب المقزمة، والأقلام المقلّمة، والحناجر التي بها عيّ.

بين هذين المحفلين تضيع الحقيقة وينهار يا رب، يراد أن ينهار بيت شيّده روادٌ بعمر فن سديد، ودأب شديد، فورثنا تراثا عوض أن نعتز به، وننميه بالمزيد تتسارع الأيدي الخفيفة إليه بالمعاول لتهدّه، لا تعرف طريقا للظهور ولا كيفا للنشور إلا الرقص على الأنقاض، والترنح بين الأضداد (هل ثمة أفضح من الكلام عن القص وانتفاء كل ما له به صلة من قريب وبعيد، عن فقر زاد ونقص خبرة، لا بعمدة تجربة؟) فأي ويل وثبور.

4- وعليه، نعد إقبالنا على قراءة، بالأحرى إعادة قراءة النص السردي الكفراوي، بمثابة مسعى لدفع هذا التشويش، حتى لا يصبح اللغط محل النسق الصحيح، كون القصة القصيرة لها نصوصها المفردة، وخصائصها المائزة، وتجنيسها الفارق في حده الحد بين الجد واللعب،
ولعبها من لبّ تكوينها لا في القشور، ولها دائما أقلامُها، كما لكل فن أصيل، بالرّفد من تجربتهم، والاحتكام إلى صناعتهم، يُعرف من يمسك بناصيتها، ويسود في مضمارها،فإن زانها تطور فآتٍ من هؤلاء حتما لأنهم إما ما زالوا ينشئون أو فتحوا في وجهه الطريق وعبّدوه، على كل سائر في درب غد الأدب الاعتراف بالفضل، والبرهنة على نضج أخصب، ما فعله سعيد الكفراوي وأبناء جيله من كتاب القصة القصيرة في العالم العربي، ورثوا فتح البدايات، ووقفوا على الأرض الصلبة للتأصيل، ثم انتشروا ببصيرة فنية متطورة في طرق الامتداد، كلٌّ أخذ نهجا، أو اصطنعه،وهم جميعا حول فلك الفن الأصيل يدورون.

هذا الإقبال نراه، كذلك بمثابة تخصيص لهذا الاعتراف، ليناله من يستحقه ليس بعدد مجاميعه القصصية وحدَها (إحدى عشرة مجموعة في ما نعلم) بل وبما تحفل من اختبار لدقائق وإرهافات جنس يعد حقا محكا للقول المشحوذ والصقيل.

ولهذه الغاية وجدنا ضالتنا في كتاب جامع مانع، هو المختارات القصصية التي انتقاها الكاتب بنفسه، حسب ذوقه، ويرى فيها، ونرى معه، نماذج تمثيلية لفنه، ومبتغاه من هذا التعبير، وأنعِم به من اختيار حين تقرأ المتفرق بين المجاميع على فترة زمنية تمتد قرابة خمسة عقود، هي في الحقيقة التي تمثل تأصيل القص القصير ـ وتجديد شبابه، وجعله في حقبة ما سمي بالنكسة التعبير الأمثل عن إحساس ونزوع الإنسان العربي يتقلب في ظروف عيش مختلفة، وتنتابه هواجس، ويتطلع إلى مستقبله بآمال ومشاعر وأحلام مغايرة، جاءت كتابة مغايرة أيضا لقوله ـ مجتمعة في مختارات ' شفقٌ ورجل عجوزٌ وصبيّ' (القاهرة ـ دار الشروق ـ 2008).

5- لا شك في أن أول ما يستوقف قارئ المختارات، دليل الكاتب الذي نضجت تجربته، واكتملت أدواته إلى الحد الذي لا يتردد في وضع أنطولوجيا خاصة به، ويقدمها للوسط الأدبي دليلا هاديا عن فنه، لا شك، يستوقفه أن الاختيار جرى بين الحقبة الممتدة من سنة 1985 إلى2004.

هكذا فهي تشمل عقدين من نشاط الكاتب القصصي، يعول عليها في إبراز واجهة شغله وتأشير مساره. لا يعني هذا أن هناك تخليا عمّـا سبق، بل إن النضج يفترض البدايات، وهي أكثر من شخصية، بل جيلية، كما ذكرنا، بل موروثة، باعتبار أن الكفراوي سليل أسلاف كبار في مدرسة القصة المصرية (لنسم فقط تيمور، وأبو النجا، والشاروني، والكبير يوسف إدريس)، ففي جعبة كل كاتب ناضج ومحنك رفد من ماض وأسلاف، تشربتها كتابته، وترسم بها خطاهم، لا يشنع عليها كما يفعل ناشئة هذه الأيام، بل تنضح بالرغم منه، لا يستطيع لها نكرانا لأنني أنا القارئ المحترف أرى في هذه القصص، وهي منتقاة على هوى صاحبها، الخطاطة التقليدية للقصة القصيرة، كما صنعها آباؤها (غوغول، تشيخوف، إ.أ. بو، موباسان).

بين بداية ووسط ونهاية أو لحظة تنوير، وشخصية وحدث أو فعل أو توتر ومفارقة، إلى جانب سماتها الأسلوبية. لا أراها على رسمها القديم، وإنما بعبارة طرفة بن العبد الشعرية: 'كباقي الوشم في ظاهر اليد'. وحاجتي لهذا التقسيم واقتفاء الأثر يساعدانني على ضبط القراءة، ومن ثم وفوق التصنيف ' المدرسي' الانتقال السلس إلى توفير مقروئية خصوصية ملائمة للنص المقترح، نظرا لكونها ملزمة مع كل تجربة تخوض غمار النظر والوصف والإحساس بالإنسان في زمان ومكان معينين، بحس تريده مغايرا لما فات، مستقلا بنظرته، ومنحازا لزمانه، السيكولوجي، الاجتماعي والثقافي، والاقتصادي، النابض بدورة الحياة المادية العارمة.

لنخلص من هذا الطرح الأولي إلى أن قص الكفراوي يحقق أصالته مبكرا بقدرة الانتساب إلى مدرسة السلف صانعة الرسم البدئي للجنس الوليد في أدبنا، ويؤكدها بانزياحه التالي عنها.

وقد راح يبحث له مع أبناء جيله من المدرسة الحديثة الثانية ـ ( لنتذكر أن المدرسة الحديثة الأولى للقصة القصيرة في مصر ُنسبت لمحمود طاهر لاشين، خلفا للمدرسة التيمورية الرائدة بجد) ـ عن القص الآخر، بحساسية ورؤية وجماليات، جامعة بين قديم وجديد، وصانعة الفريد.

6- ينهض البناء القصصي الكفراوي على ثلاثة أعمدة أساسية:أ ـ أرض الواقع الصلبة؛ ب ـ الإنسان المقيم فوق هذه الأرض؛ج ـ قيمُ ووجدانُ وأحلامُ هذا الإنسان. وبما أن البناء في القصة عملية فنية تتجاوز التصور القبلي إلى ضرورة التشخيص المادي،فهي تتم في قصصه بجملة من الأدوات والوسائط،أهمها:

- اقتطاع الحيز الضروري جدا، قد يكون مكانا أو زمنا، أو شعورا، الذي سيقوم السرد بعرض حاله ( الحالة) البشرية، واختراقه من داخل.
- اعتماد التجسيد الخارجي بآلية الوصف العياني، ليظهر كل شيء شاخصا، فتصبح الصورة المرصودة شهادة ومثار افتتان.

- كل تصوير قصصي زيادة عن كونه حجة على خبرة فنية مطلوبة، تكمن قيمته في منظوره، وهو في القص المبدع دائما مبتكر، نجاحه رهنٌ بتقديمه الحالة من زاوية مختلفة، إن لم نقل غير مسبوقة، المفارقة والطرافة والإبدال من بينها.

- يُنسج المنظور على النَّوْل القصصي بخيوط المادي الوصفي، بتسمية الأشياء بمسمياتها حيث تعيّن الدوال، ثم بالإيحائي الرمزي الذي ينسج بالبلاغة، باللغة الشعرية،لاستبطان الوجدان، واستهلال الإفصاح عن الدلالات.

- عمليا لا توجد قسمة، أو تثنية في هذا النسيج، العنصران هما لحمته وسداه، إذ ثمة تفاعل بعد التكامل في تأدية وظيفة المنظور للوصول إلى الدلالة الكبرى.

- تبعا لذلك فإن لغة القص تمتح من قاموس واقعي جدا، مقدود مباشرة من المحيط، ومثله المعلومات والخبرات المرتبطة بعملية الوصف، ونقل أطوار الحكي، وتوصيل مادته، نتيجة دراية شمولية بالمحيط إياه، يضع الثقافة بمعناها الاجتماعي والأنتروبولوجي في خدمة قص، فضاؤه وشخصياته وتيماته، محتواه وأهواؤه جلها أبعد ما يكون عن المدار الحضري، كما سنعود إلى هذه الملاحظة بتفصيل.

هنا يذكرنا الكفراوي، ينبه ضِمنا كل من يجترح هذا الفن بجد، إلى أن طرقه إلى جانب الموهبة والفطنة تعلم، عمدته الخبرة التي تتطلبها أي صناعة،مع الكفراوي ننسى تلك التهويمات التي تعتبر الأدب خيالا صرفا، أو تقرنه بلغة جوفاء.

لغة هذا القاص معجونة بتراب بيئتها حدا يتعذر فهم بعض الكلمات، مثلما هي الصور. والمرجعيات الواقعية المساندة للمنظور، وإحالات المخيال الشعبي ذات الغنى الوافر.

7- ما يقودنا إلى تعيين ما يسمى بالعالم القصصي للكفراوي، هذا الذي يحدث بدءا مفارقة لافتة في ما اعتدنا أن تجعله القصة القصيرة ميدانها ومنه تستمد نسوغها. اعتدنا أن نقرأ عند دارسي هذا الفن،خاصة من دعاة المنهج السوسيولوجي للأدب، تعبيره أساسا عن المجتمع المديني، وانبثاقه أولا في المجال الحضري، هنا حيث تبلورت الطبقة الوسطى بأزماتها ومظاهر عيشها الطارئة؛ جنس أدبي مهمته التقاط العابر في المدى الممتد، ودق ركيزة عميقة فوق تربة العمودي.

ومما لا شك فيه أن النسبة الغالبة من تراث هذا الجنس مديني لا غبار عليه في الآداب كلها، منها الأدب العربي الحديث، الفتيّ تخصيصا. (إنما،ها سعيد الكفراوي)، في المختارات، حصاد تجربته، يقلب الأطروحة بإتيانه بنقيضها. عالمه جله قروي ( ريفي)، أو لصيق به، وشخصياته (ناسه) قرويون، وأحيانا أقل من ذلك، أي متلاشون، ينتسبون إلى المجرد والمطلق، وهم على العموم إن عاشوا في المدينة فهواهم خارجها وحنينهم أبدا ' لأول منزل'.

وبطبيعة الحال، فالعبرة بما بعد هذا التوصيف، بمقتضى ما يترتب عن جعل الريف وخلقه وهمومه فضاء مخصوصا للقص وشاغلا له.

ليس الشأن شأنَ موضوع، ولا مضمون، وإنما تطويع جنس أدبي ليختص بما يعتبر عادة غريبا عنه. لم لا نقول تحويله، بذا يعتريه تغير يمس جوهره، فيصبح موكولا إليه التعبير عن شيء آخر غير العابر والمنفلت والزئبقي، هي وتأزمات المتوحدين، المتخبطين في مآزق المدن الجديدة ـ تطحن أبدانهم، وتنتفض فيها أرواحهم فزعا من عيش قلق ومشاعر حارقة وغد غامض.

تبعا لهذا لا يبقى للوسائط الفنية المخصوصة به الدور المعتاد، فكل فضاء وخلق ووهم يفرض أسلوبه، أو كما نقول الشكل المناسب للمضمون، ما يشجع على القول بأن القصة الكفراوية وإن تجنست وفق المعيرة الأجناسية المحددة، نراها تنزع إلى قول أدبي، أجل مشتق من القص القصير بكل تأكيد، وموصولة به بأوثق الأسباب، منفتح على أفق كتابة مختلفة، مستجدة، تعمد بديناميتها إلى تنسيب القواعد المرعية وتهجينها بوعي، وبالتالي ضمنا إلى إعادة التجنيس رأسا على عقب.

8- وقد اعتدنا أن نسمي ما يكتب خارج البؤر والتيمات المركزية هامشا، ولا نبالي بكون هذا التصنيف يحتاج قبل ذلك إلى وجود استقرار وانتظام حضريين، مع فرز دقيق للأنواع الأدبية الحديثة التي هي بدورها في طور التأسيس والتأصيل المستمرين عندنا.

لنتساءل الآن هل نتوفرعلى ثقافة مدينية متميزة تعليما واقتصاديا واجتماعيا، ونمط عيش، وأسلوب ذوق وسلوك ورفاه، لتنعكس وتجد صداها بأشكال مختلفة في الآداب والفنون بقياسات مفروزة حقا؟

وما معنى الهامش حين ينضوي غالبية البشر في أوضاع الحرمان والخوف والعجز، بينما تحتكر فئة محدودة جدا أغنى وأجمل ما في الوجود؟!

بيد أن وعي الكاتب لا يمكن أن ينسلخ في النهاية من الإحساس بالتهميش الذي يطبع حياة الجماعة المغمورة وإحباطاتها، مادة هذا الفن الأولى، علاوة على أن أي نص درامي لا بد أن ينجم عن صِدام، وشبه قطيعة، تظهر بوجود الفارق.

لذا لا تفلت القصة القصيرة لدى الكفراوي، في النهاية، من سطوة المدينة، التي تتجلى، من باب المفارقة، في غيابها، وكذلك في وجودها على خط التماس، وكمثال للكمال، بل إن القص هو الآخر ليس إلا طريقة للقصاص من المدينة، من المركز المفترض الذي يرمي البشر إلى قفار الحرمان الهشاشة والعزلة القاتلة.

هؤلاء، مثل الشعوب البدائية، كانت تواجه عجزها إزاء الطبيعة وخوفها من أهوالها، بالتعاويذ، بالسحر، وبالحكاية لا عجب أن يقول السارد في قصة: 'يوم بسبعين سنة'، محددا الوظيفة الكاتارسيسية لفن القص:' الحكي شفاء للروح، وصدى صوت الحكاية في زمن مكبوس بالهزيمة مثل الجرس'.

9- ولك أن تعجب من أن الكفراوي يقيم عُمران قصصه بمواد التلف والزوال، بما هو فان ٍ أو في طريقه إلى الفناء.
وتعجبُ أيضا أنه كلما عضّ على الواقع بالنواجذ اقترب من حافة الهاوية، وغلب الوهم حيلة الحياة الدنيا، الفانية.

في قصصه يقوم التعارض واضحا بين مواد البقاء وعناصر الزوال، كما يتجاوران، تمثيلا وصدْعا بجدلية الحياة والموت، تستشف ولا تُقرر في كتابة هي بدورها متموجة كرقصة فالس تحضن فيها ذراع الواقعي جدا، الحاف، خصر الشعري، الحُلمي في أقاصيه.

تأمل معي في الشق الأول مفردات: الغبار، الرماد،الدخان،التراب، الغمام، الشبورة، الرمم، المزق، الحزن، حتى الدار من غبار، ومثله كثير يعد مهيمنة قاموسية دلالية كبرى، تقابلها مهيمنة نقيض تمثل الشق الثاني المرادف للخصب: العشب الأخضر، الغيطان، الزرع، السيقان العارية، أجساد النساء المربربة، القلب النابض، الخفق،الغسق، الألوان، الزرع، موسم الخصب، النهر، الفحولة، وكثير مما لا تخلو منه واحدة من القصص الأربع والثلاثين من المختارات.

إن تيمات هذه القصص بأجوائها، تتمفصل بدورها بين ثنائيات متضادة، تفلت من الميكانيكية، وأبعد ما تكون عن الابتئاس فيما هي تطرق بإلحاح البؤس الإنساني.

الثنائيات تتحاور وتتفاعل، يخرج الفرح من الحزن، وهذا من ذاك، كما يخرج النهار من سدف الظلام، وهكذا دواليك. على أنه ينبغي البحث عن هذا التوليف والتركيب في ما هو أبعد، أي في المنظومة الذهنية لدى الكاتب، حيث مفهومه للحياة، ونظرته للإنسان، مشخصا في كائن اجتماعي في بيئة بعينها، وكائن وجودي مصنوع من أحاسيسه ومن أخاديد الزمن.

بمصطلح سوسيولوجيا الأدب الغولدمانية، تسمى هذه المنظومة بـ' رؤية العالم'وهي تختلف عن مصطلح الواقعية السطحية، بحذافيرها، وتحتوي على مقدرة امتصاص وعي الجماعة، والتعبير من قلبها، من غير أن تلغي الأنا الكاتبة، لأنها في الأدب تتجلى باللغة وعلى صعيد التعبير والصور، بينما تحيل في الآن إلى بنيتها العميقة.

10- رؤية العالم التي تظهر نشيطة في قصص الكفراوي، كثيفة الحضور، بناء على ما يمكن أن يقوم به بحث ثان، على صعيد التيمات، (هناك في الحقيقة تيمتان مركزيتان، تشغلان عددا محددا من الحوافز) والشخصيات، والوقائع (تختلف عنها في القص التقليدي، لتطويرها مفهوم الفعل) والمشاهد، وأنواع التوتر بحبكاتها وانفراجاتها، وغيره، لهي ما يمثل المنظور الواقعي، مصنوعا ومقاربا بأدواته: إنه يعطيك الخارجي في كثافة صاعقة،صادمة، فجة، عارية، وهل يملك الفلاح، وابن الريف وامرأته، عموما مساحيق؟! ينشر الروائح، ويفصد عروق الجسد،وتشم التراب والنسيم والحريق، والعلف، والنهيق والهسيس وخوار البقر، وهيجان الثيران، وترى الألوان، لا يبقى شيء من دون تأثيث ونتوء، للون لوينات، وللصوت دبدبات.

هو قلم يتحول إلى ريشة رسام، ويتعداه إلى أبعد، لأن بغيته أبعد، بالأحرى رؤيته لا يكفيها منتوج رؤية العالم، لا نحتاج إلى التذكير بواقعيتها، لتنتقل إلى مساحة الإبداع الشخصي، حيث الفن يلعب لعبته، ويتحرر الكائن من قيوده ما وجد سبيلا.

11- هذه كلها وسواها أدوات مسطرة نقل الرؤية الواقعية، بتفصيل وبذخ معا.
إنها تعمل أساسا وفق مقاربة بصرية، وفن القصة القصيرة ضمن جنس السرد الحديث، تعد الواقعية مدماكه، ومن شروط وجوده، لانسلاخه عن مكونات البويطيقا الأرسطية، وإن احتفظ ببعض إوالياتها الدخلية الخاصة بالأجناس التقليدية، ما قبل الحديثة، وهي كلها تحتفي بالخبر، بالحكاية.

تنقل فيها حوادث الدهر وصراع الإنسان وفواجعه،وبأشكال تقليدية دائما.
أما الكاتب العصري، الحداثي، فهو إنما يتوسل تلك الأدوات مدخلا ليعيد تشكيل مساحة ونظام المضمار السردي الذي سيسكن فيه ناسه ووساوسه واستيهاماته (هم)، ويرسمهم وهم يعيشون على طريقتهم لعبة الحياة، كما ستتبناها لعبة سرد مغايرة، وبطبيعة الحال برؤية تُناغمها مختلفة.

تغيير المنظور أحدث ثورة في الفنون التشكيلية، وفي الكتابة السردية، أيضا، وبعد الإشارة الأولى لما جدّ عند سعيد الكفراوي على صعيد المعالجة البصرية، ها هو ينزل من الخارج إلى الداخل، من فوق يهبط إلى معارج الذات، أبطال قصصه يصدق عليهم ما قاله واحدٌ واصفا حاله: 'كنت كمن يعبر ممرا سريا خارجا من داخل نفسه' أو: 'كأن ما يحدث خارجك يحدث داخلك.' بناء على عملية التحويل التي تجعل الرؤية تغير مصادرها ونظامها، فهي كفت عن أن تظل رؤية للعالم خالصة، ولكن لهذه، إنما من خلال بوصلة ذات ترى بعين ثالثة، عين الحلم، وعندئذ تصبح رؤيا.

قصص الكفراوي لا تحفل بالأحلام وحسب، وحدها يمكن أن تمثل متنا للتحليل والتأويل، بل إن اشتغالها الإشاري، واحتفاءها بالفضاءات الملتبسة ومنطقة السحر (قصة 'رفة جفن' و' ضربة قمر') أغنى وأقدر على توكيد التحويل ليغدو حالة ثابتة تطبع كتابة، وتتسمى بها، لا صيرورة فقط، ذلك أن هذه الصيرورة متوفرة في نصوص كتاب عديدين، تبهر القراءة أحيانا، فتتوسل هذه بعناصر مبعثرة فتتسرع بتصنيفها نصا حلميا واستعاريا، حقق التجاوز، وما شاكل.

قصة الكفراوي انتقلت إلى صعيد الرؤيا، بامتصاصها، أولا، للطرائق الفنية لما قبلها. ثانيا باقتحامها عوالم مفردة تفاعلت فيها خبرتها وتجاوبت حسا وإحساسا. هي ثالثا اخترقت ما هو قواعدي، بل ومتعدّ ٍ بالجنس نفسه لتنفتح على سردية انسيابية، ذات خطة سيرذاتية بوحية، ولا يعود أمام الكاتب حرج في أن يتماهى مع محيطه الأصلي (قرية كفر حجازي بمحافظة الغربية) والفضاء القصصي لشخصياته، بقدر ما يتماهى الخارج بالداخل في سرد يريد أن يكتب 'غير المرئي'، وقصاص أثر غايته أن ' يستحوذ على الزمن الضائع'(44) وأنا ينظر إلى آخره، قصة ' صورة ملونة للجدار'.

وهي رابعا، معبر تراكم صار مثقلا بالتجربة كنخلة عامرة بالثمار، حتى إذا هززتها أنت أيها القارئ اللبيب اساقطت عليك رطبا جنيا.

وأنت في النهاية إن نظرت إلى قصص سعيد الكفراوي في رؤيتها الكلية، أسميناها الحلمية، لوجدتها بالخصوبة الخيالية، والجمالية التخييلية لما جسده أبو هذا النهج المكسيكي خوان رولفو في روايته ' بيدرو بارامو' التي لا تشبه أي رواية، ولها شهد، بل تتلمذ، ماركيز وكورتثار وفوينتس، هي ما أنجب 'الواقعية السحرية' لقصة أمريكا اللاتينية، فما أحوجنا إلى تأمل ودراسة السرود المؤسسة في أدبنا العربي الحديث لهذا النهج وإنصاف أصحابها، ليظهر صحيح العملة من زائفها، خاصة وصيارفة هذه الأيام انجروا وراء بريق ' النقود' الزائفة، وصاروا مزوري نقود!

12- درءا لهذه المفسدة، نحن جميعا مدعوون إلى حضور حفل قصصي أسطوري، تتجاور فيه قرية ' كومالا' لبارامو، مع ' كفر حجازي' للكفراوي، لنرى هذا الأخير، نظير خوان برسيادو، ونسمعه وهو برفقة ' زبيدة والوحش' (رؤية في نصين):' [ قد] تجرد من ثيابه فيما كان يطلع النهار، لم يكن أنثى ولم يكن ذكرا، ينتشي بذاكرته الحية وينتهي إلى ما اعتقده بيقين لا يعرف الخوف منذ طفولته، بأن الرؤية غير الرؤيا، وبأن ما يوجده الخيال غير ما يوجده النظر،وأنه أمضى عمره باحثا في البراح عن عمار لروحه، وسكن لاعتقاده..'.

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال