تعريف الاستعارة وبيان أنواعها وأركانها.. استعمال اللفظ في غير ما وضعَ له لعلاقة المشابهة بين المعنَى المنقولِ عنه والمعنِى المستعملِ فيه مع قرينة صارفة عن إرادة المعنَى الأصلي

سبقَ أنَّ التشبيهَ أولُ طريقةٍ دلتْ عليها الطبيعةُ; لإيضاحِ أمرٍ يجهلُه المخاطبُ، بذكر شيءٍ آخر، معروفٍ عنده، ليقيسَه عليه، وقد نتجَ من هذه النظريةِ، نظريةٌ أخرى في تراكيب الكلامِ، ترى فيها ذكرَ المشبَّهِ به أو المشبَّهِ فقط.

وتسمَّى هذه بالاستعارةِ، وقد جاءتْ هذه التراكيبُ المشتملةُ على الاستعارة أبلغَ من تراكيب التشبيهِ، وأشدَّ وقعاً في نفس المخاطبِ، لأنه كلما كانتْ داعيةً إلى التحليقِ في سماء الخيالِ، كان وقعُها في النفسِ أشدَّ، ومنزلتُها في البلاغة أعلَى.

وما يبتكرهُ أمراءُ الكلامِ من أنواع صور الاستعارةِ البديعةِ، الّتي تأخذُ بمجامعِ الأفئدةِ، وتملكُ على القارئ والسامعِ لبَّهما وعواطفهُما هو سرُّ بلاغةِ الاستعارةِ.

فمنَ الصورِ المجملةِ الّتي عليها طابعُ الابتكار وروعةُ الجمالِ قولُ شاعر الحماسةِ[1]:
قومٌ إذا الشرُّ أَبْدَى نَاجِذيه لهم -- طارُوا إليه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانا

 فإنهُ قد صوَّر لك الشرَّ، بصورة ِحيوانٍ مفترسٍ مكشِّرٍ عن أنيابهِ مما يملأُ فؤادكَ رعباً، ثم صوَّر القومَ الذين يعنيهم، بصورِ طيورٍ تطيرُ إلى مصادمةِ الأعداءِ; طيراناً مما يستثيرُ إعجابكَ بنجدتِهم، ويدعوكَ إلى إكبارِ حميَّتِهم وشجاعتهِم.

ومنهم منْ  يعمدُ  إلى الصورة الّتي يرسمُها، فيفصلُّ أجزاءها، ويبينُ لكلِّ جزءٍ مزيتَهُ الخاصةَ، كقول امرئ القيس في وصفِ الليلِ بالطولِ [2]:
فَقُلْتُ له لمَّا تَمطَّى بِصُلْبِهِ -- وأرْدفَ أعْجازاً وناءَ بِكَلْكَلِ
ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي -- بصُبْحٍ وما الإصْباحَ مِنك بأمثَلِ

 فإنه لم يكتفِ بتمثيلِ الليلِ، بصورة شخصٍ طويلِ القامةِ، بل استوفى له جملة َأركانِ الشخصِ; فاستعارَ صُلباً يتمطَّى به، إذ كان كلُّ ذي صُلبٍ يزيدُ في طولهِ  تمطيهِ، وبالغَ في ذلك بأنْ جعل له أعجازاً يردفُ بعضُها بعضاً، ثم أرادَ أن يصفَه بالثقلِ على قلبِ ساهرهِ، فاستعارَ له كلكلاً  ينوءُ به أيْ  يثقلُ به، ولا يخفَى عليكَ ما يتركُه هذا التفصيلُ البديعُ في قلبِ سامعهِ من الأثرِ العظيمِ، والارتياح ِالجميلِ.

ومنهم منْ لا يكتفي بالصورةِ التي يرسمُها، بل ينظرُ إلى ما يترتبُ على الشيءِ فيعقِّبُ تلك الصورةِ بأخرَى أشدَّ وأوقعَ، كقول أبي الطيب المتنبيِّ[3]:
رماني الدهرُ بالأرْزاءِ حتى -- فؤادي في غِشاء من نِبالِ
فصِرْتُ إذا أصابتْني سِهامٌ -- تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ

 فإنه لم يكتفِ بتصويره ِالمصائبَ سهاماً في سرعةِ انصبابِها، وشدةِ إيلامها، ولا بالمبالغةِ في وصف كثرتِها، بأنْ جعلَ منها غشاءً محيطاً بفؤادهِ، حتى جعل ذلك الغشاءَ من المتانةِ والكثافةِ، بحيث إنَّ تلكَ النصالِ مع استمرار انصبابِها عليه، لا تجدُ منفذاً إلى فؤادهِ، لأنها تتكسرُ على النصالِ الّتي سبقتْها، فانظرْ إلى هذا التمثيل ِالرائعِ، وقل لي: هلْ رأيتِ تصويراً أشدَّ منهُ لتراكمِ المصائبَ والآلامَ؟

تعريفُ الاستعارة وبيانُ أنواعها:
- تعريفها:
الاستعارةُ لغةً: من قولهِم، استعارَ المالَ: إذا طلبَه عاريةً.
واصطلاحاً: هي استعمالُ اللفظُ في غير ما وضعَ له لعلاقةِ (المشابهةِ) بين المعنَى المنقولِ عنه والمعنِى المستعملِ فيهِ، مع (قرينةٍ) صارفةٍ عن إرادةِ المعنَى الأصليِّ.

(والاستعارةُ) ليست إلا (تشبيهاً) مختصراً، لكنها أبلغُ منهُ كقولك: رأيتُ أسداً في المدرسةِ، فأصلُ هذه الاستعارةِ «رأيتُ رجلا ًشجاعاً كالأسدِ في المدرسةِ» فحذفتَ المشبهََّ «لفظُ رجلٍ» وحذفتَ الأداةَ الكاف – وحذفتَ وجهَ التشبيهِ «الشجاعةَ» وألحقتهُ بقرينةٍ «المدرسةِ» لتدلَّ على أنكَ تريدُ بالأسدِ شجاعاً.

وأركانُ  الاستعارةِ ثلاثةٌ:
1- مستعارٌ منه: وهو المشبَّهُ بهِ   .                                                    
2- مستعارٌ لهُ: وهو المشبَّهُ .
3- مستعارٌ: وهو اللفظُ المنقول ُ.

فكلُّ مجازٍ يبنَى على التشبيهِ (يسمَّى استعارةً)،ولابدَّ فيها من عدم ذكر وجهِ الشبهِ، ولا أداة التشبيهِ، بل ولابدَّ أيضاً من تناسي التشبيهِ الذي من أجله وقعتِ الاستعارةُ فقط، مع ادعاءِ أنَّ المشبَّهَ عينُ المشبَّهِ به أو ادعاءِ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفرادِ المشبَّهِ به الكليِّ بأنْ يكون اسمَ جنسٍ أو علمَ جنسٍ، ولا تتأتَّى الاستعارةُ في العلَمِ الشخصيِّ لعدم إمكانِ دخولِ شيء في الحقيقةِ الشخصيةِ، لأنَّ نفسَ تصوًُّر الجزئيِّ يمنعُ من تصوُّرِ الشركةِ فيه إلا إذا أفادَ العلَمُ الشخصيُّ وصفاً.به يصحُّ اعتبارهُ كلياً فتجوز استعارتُه: كتضمنِ حاتمَ للجودِ، وقُسَّ للخطابةِ، فيقال: رأيتُ حاتماً، وقُسًًّا; بدعوى كليةِ حاتمَ وقسَّ، ودخول المشبَّه في جنسِ الجوادِ والخطيبِ.

وللاستعارةِ أجملُ وقعٍ في الكتابةٍ، لأنها تمنحُ الكلامَ قوةً، وتكسوهُ حسناً ورونقاً، وفيها تثارُ الأهواءُ والإحساساتُ.


[1] - خزانة الأدب - (ج 3 / ص 73) وشرح ديوان الحماسة - (ج 1 / ص 3) والعقد الفريد - (ج 1 / ص 256) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 21 / ص 418) والمزهر - (ج 1 / ص 19)

[2] - تاريخ النقد الأدبي عند العرب - (ج 1 / ص 169) وقواعد الشعر - (ج 1 / ص 3)ونقد الشعر - (ج 1 / ص 32) والوساطة بين المتنبي وخصومه - (ج 1 / ص 110) ولباب الآداب للثعالبي - (ج 1 / ص 31) وغرر الخصائص الواضحة - (ج 1 / ص 252) وتحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر - (ج 1 / ص 6) والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر - (ج 1 / ص 135) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 1 / ص 34)  وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 10 / ص 381)وتاج العروس - (ج 1 / ص 12)

[3] - شرح ديوان المتنبي - (ج 1 / ص 196) والوساطة بين المتنبي وخصومه - (ج 1 / ص 42) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 49 / ص 39)
أحدث أقدم

نموذج الاتصال