تنبيهاتٌ عشرة حول الاستعارة[1]
- التنبيهُ الأول:
كلُّ تبعيةٍ قرينتها مكنيةٌ.
- التنبيه الثاني:
إذا أجريتِ الاستعارةُ في واحدة من الاستعارة التصريحية أو في الاستعارة المكنيةِ، امتنعَ إجراؤُها في الأخرى.
- التنبيه الثالث:
تقسيمُ الاستعارة إلى أصليةٍ وتبعيةٍ عامٌّ في كلٍّ من الاستعارةِ التصريحيةِ والمكنيةِ.
- التنبيه الرابع:
تبينَ أنَّ الاستعارةَ هي اللفظُ المستعملُ في غير ما وضعَ له، لعلاقة المشابهةِ، مع قرينةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الوضعيِّ. أو هي: مجازٌ لغويٌّ علاقتُه المشابهةُ.
كقول زهير[2]:
لَدَى أَسَدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ -- لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
فقد استعارَ لفظَ الأسدِ: للرجلِ الشجاعِ لتشابههِما في الجراءة،والمستعار له هنا: محققٌ حسًّا.
وكقوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} (6) سورة الفاتحة; فقد استعارَ الصراط المستقيمَ للدين الحقِّ، لتشابههما في أن كلاّ يوصل إلى المطلوبِ.
وكقوله تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (1) سورة إبراهيم، أي من الضلالِ إلى الهدى، فقد استعير لفظ الظلمات للضلال، لتشابههما في عدم اهتداء صاحبيِهما، وكذلك استعير لفظ النور للإيمان لتشابههما في الهدايةِ، والمستعاراتُ لهما هو الضلالُ والإيمانُ، كلٌّ منها محققٌ عقلاً وتسمَّى هذه الاستعاراتُ تصريحيةً وتسمَّى تحقيقيةً.
وأمَّا قول أبي ذؤيب الهذلي[3]:
وإذا المَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفارَها -- أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
في اغتيال النفوس قهراً،من غير تفرقةٍ بين نفاعٍ وضرارٍ، ولم يذكر لفظ المشبَّه به، بل ذكر بعض لوازمِه وهو أظفارُها التي لا يكمل الاغتيالُ في السبع إلا بها.تنبيهاً على المشبَّه به المحذوفِ فهو استعارةٌ مكنيةٌ.
وكقول الشاعر [4]:
ولئن نطقتُ بشكرِ بِرِّكَ مفْصِحا -- فلسانُ حالي بالشِّكايةِ أنطَقُ
فشبه الحالَ، بإنسانٍ ناطقِ في الدلالةِ على المقصود، ولم يصرح بلفظ المشبَّه به، بل ذكر لازمه، وهو اللسانُ الذي لا تقومُ الدلالة الكلاميةُ إلا به، تنبيهاً به عليه، فهو أيضاً استعارةٌ مكنيةٌ، وقد أثبتَ للمشبه لازمٌ من لوازم المشبَّه به، لا يكون إلا به كمالُه أو قوامُه في وجه الشبهِ كالأظفار التي لا يكمل الافتراسُ إلا بها. كما في المثال الأول واللسان الذي لا تقوم الدلالةُ الكلامية في الإنسان إلا به، كما في المثال الثاني وليس للمنية شيء كالأظفار نقل إليه هذا اللفظ، ولا للحال شيء كاللسان نقل إليه لفظ اللسان. وما كان هذا حاله يعتبر طبعاً تخييلاً أو استعارةً تخييلةً.
- التنبيه الخامس:
تقدم أنَّ الاستعارةَ التصريحيةَ أو المصرحةَ: هي ما صرِّح فيها بلفظِ المشبَّه به.
وأن َّالمكنيةَ، هي ما حذِفَ فيها لفظُ المشبَّه به، استغناءً ببعض لوازمِه التي بها كمالُه أو قَوامُه في وجه الشبَّه
وأنَّ إثباتَ ذلك اللازمِ تخييلٌ أو استعارةٌ تخييليةٌ، غير أنهم اختلفوا في تعريف كل ٍّمن المكنيةِ والتخييلةِ.
فمدهبُ السَّلف: أنَّ المكنيّةَ: اسمُ المشبَّه به، المستعارُ في النفس للمشبَّه، وأنَّ إثباتَ لازم المشبَّه به للمشبَّه استعارةٌ تخييلية ٌ ،فكلُّ من الأظفارِ في قوله: وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارَها.واللسانِ في قوله: فلسانُ حالي بالشكايةِ أنطقُ ، حقيقةٌ، لأنه مُستعملٌ فيما وضِع لهُ.
و مذهبُ «الخطيبِ القزويني» أنَّ المكنيةَ: هي التشبيهُ المضمَرُ في النفس، المرموزُ إليه بإثباتِ لازم المشبَّه به للمشبَّه ،و هذا الإثباتُ هو الاستعارةُ التخييليةُ.
و مذهب «السكاكيِّ» أنَّ المكنيةَ لفظُ المشبَّه، مراداً به المشبَّه به، فالمرادُ بالمنيةِ في قوله: وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارَها هو السبعُ بادعاءِ السبعيةِ لها.
وإنكارِ أنْ تكونَ شيئاً غيرَ السبع، بقرينةِ إضافةِ الأظفار التي هي من خواصِّ السبع إليها.
والتخييليةُ عندهُ ما لا تحقق لمعناهُ؛ لاحساً ولا عقلاً، بل هو صورةٌ وهميةٌ محضةٌ: كالأظفارِ في ذلك المثال، فإنه لما شبَّه المنيةَ، بالسبعِ في الاغتيالِ، أخذَ الوهم يصورها بصورته. ويخترعَ لها لوازمَه، فاخترع لها صورةً كصورةِ الأظفار، ثم أطلق عليها لفظَ الأظفارِ فيكون لفظُ الأظفارِ استعارةٌ تصريحيةٌ تخييلةٌ.
أما أنها تصريحيةٌ: فلأنهُ صرح فيها بلفظ المشبَّه به وهو اللازمُ الذي أطلقَ على صورةٍ وهميةٍ شبيهةٍ بصورة الإظفارِ المحققةِ، وأما أنها تخييليةٌ: فلأن المستعارَ له غير محققٍ لاحسًّا ولا عقلاً،والقرينةُ على نقل الأظفارِ من معناها الحقيقيِّ إلى المعنى المتخيَّلِ، إضافتها إلى المنيةِ.
هذا، ومذهبُ السكاكيِّ في المكنيةِ مردودٌ عليه، بأنَّ لفظَ المشبَّه فيها مستعملٌ فيما وضعَ له تحقيقاً، للقطعِ بأن المرادَ بالمنيةِ الموتُ لا غيرَ، فليس مستعاراً.
- التنبيه السادس:
الاستعارةُ صفةٌ للَّفظ على المشهور; والحقُّ أنَّ المعنى يعارُ أولاً ثم يكونُ اللفظُ دليلاً على الاستعارةِ، وذلك:
1- لأنه إذا لم يكن نقلُ الاسم تابعاً لنقل المعنى تقديراً لم يكن ذلك استعارةً، مثلَ الأعلامِ المنقولة، فأنت إذا سميتِ إنساناً بأسدٍ، أو نمرِ، أو كلبٍ، لا يقال: إنَّ هذه الأسماءَ مستعارةٌ; لأنَّ نقلها لم يتبعْ نقل معانيها تقديراً.
2- ولأنَّ البلغاءَ جزموا بأن الاستعارةَ أبلغُ من الحقيقةِ، فإن لم يكن نقل الاسم تابعاً لنقل المعنى، لم يكن فيه مبالغةٌ، إذ لا مبالغةَ في إطلاقِ الاسم المجردِ عن معناه.
- التنبيه السابع:
ظهرَ أنَّ الاستعارةَ باعتبار اللفظ نوعان أصليةٌ وتبعيةٌ.
فالأصلية: ما كان فيها المستعارُ اسمَ جنسٍ غيرَ مشتقٍّ، سواءٌ أكان اسمَ ذاتٍ كأسد للرجل الشجاع، أم اسمَ معنى، كقتلَ للإذلالِ، وسواء أكان اسمَ جنسٍ حقيقةً كأسدِ وقتلٍ، أم تأويلاً كما في الأعلامِ المشهورةِ بنوع من الوصفِ كحاتم في قولك: رأيتُ اليومَ حاتماً، تريد رجلاً كاملَ الجودِ، فاعتبر لفظُ حاتمٍ في قوة الموضوعِ لمفهومٍ كليٍّ، حتى كادَ يغلبُ استعماله في كلِّ من له وصفُ حاتم.
فكما أنَّ أسداً يتناول الحيوان َالمفترسَ والرجلَ الشجاعَ: كذلك حاتمُ يتناول الطائيُّ وغيره ادعاءً، ويكون استعمالُه في الطائيِّ حقيقةً، وفي غيره مجازاً، لأن الاستعارةَ مبنيةٌ على ادعاءِ أنَّ المشبَّه فردٌ من أفراد المشبَّه به، فلابد أن يكون المشبَّه به كلياً ذا أفرادٍ.
والمرادُ باسم الجنسِ غيرِ المشتقِّ ما صلُحَ لأنْ يصدقَ على كثيرينِ من غير اعتبارِ وصفٍ من الأوصاف في الدلالةِ.
وليس العلمُ الشخصيُّ واسمُ الإشارة والضميرُ والموصولُ من الكلياتِ، فلا تصحُّ أن تجرَى فيها الاستعارةُ الأصليةُ.
أما المشتقُّ فالصفةُ جزءٌ من مدلولهِ وضعاً، لأنه موضوعٌ لذاتٍ متصفةٍ بصفةٍ، فكريم ٌموضوع ٌلذاتٍ متصفةٍ بالكرمِ، وقتيلٌ موضوعٌ لذاتِ متصفةٍ بوقوع القتل عليها.
و قد اعتبرتِ الأعلامُ التي تتضمن معنى الوصفِ اسمَ جنس تأويلاً ،ولم تعتبرْ من قبيل المشتقِّ، لأنَّ الوصفَ ليس جزءاً من معناها وضعاً، بل هو لازمٌ له، غيرُ داخلٍ في مفهومه، فحاتمُ لم يوضعْ للدلالة على الجودِ ولا على ذاتٍ متصفةٍ به، ولكنَّ الجودَ عرَضٌ له.ولزمَهُ فيما بعدُ.
- التنبيه الثامن:
التبعيةُ ماكان فيها المستعارُ مشتقًّا، ويدخل في هذا: الفعلُ والاسمُ المشتق، والحرفُ.
فاستعارة الفعل، نحو قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (11) سورة الحاقة.
يقالُ: شبَّه زيادة الماء زيادةً مفسدةً، بالطغيانِ، بجامعِ مجاوزة الحدِّ في كلَّ، وادعى أنَّ المشبَّه فردٌ من أفرادِ المشبَّه به، ثم استعيرَ المشبَّه به للمشبَّه: على سبيل الاستعارةِ التصريحيةِ الأصليةِ، ثم اشتقَّ من الطغيانِ بمعنى الزيادة طغى بمعنى زادَ، وعلا; على سبيل الاستعارةِ التصريحيةِ التبعيةِ.
ونحو قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا..} (168) سورة الأعراف، ونحو قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (24) سورة الانشقاق،
- التنبيه التاسع:
قد يستعملُ لفظُ الماضي موضعَ المضارع، بناء على تشبيهِ المستقبلِ المحققِ، بالماضي الواقعِ، بجامعِ تحققِ الوقوع في كل، نحو قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا...} (21) سورة فصلت.
و قد يعبَّرُ بالمضارعِ عن الماضي، بناءً على تشبيهِ غير الحاضر بالحاضرِ في استحضارِ صورتهِ الماضيةِ، لنوع غرابةٍ فيها. نحو: قوله تعالى: {..قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ..} (102) سورة الصافات.
ونحو: إنما أصادقُ الأصمَّ عن الخنَى، وأجاور الأعمى عن العورات، ونحو: فلسانُ حالي بالشكايةِ أنطقُ: أي أدلُّ.
ونحو قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ..} (52) سورة يــس.
ونحو: جئت بمقتالك: أي بالآلة التي أضربك بها ضرباً شديداً.
- التنبيه العاشر:
مدارُ قرينة التبعية في الفعل والمُشْتق على ما تأتي:
1- على الفاعل: نحو قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} (11) سورة الحاقة، ونطقتِ الحالُ بكذا.
2- أو على نائبهِ، نحو قوله تعالى: {..وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ..} (61) سورة البقرة
3- أو على المفعول به، نحو قول ابن المعتز [5]:
جُمِعَ الحقُّ لنا في إمامٍ -- قتلَ البخلَ، وأحيا السماحا
4- أو على المفعول به الثاني، نحو قول كعب بن زهير [6]:
صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ أَبارَ ذَوِي أَرُومَتِها ذَوُوها
5- أو على الفاعل والمفعولين، كقول الشاعر [7]:
تَقري الرياحُ رياض الحزن مزهرة -- إذا سرى النومُ في الأجفان إيقاظَا
6- أو على مفعولين، كقوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا...} (168) سورة الأعراف.
7- أو على المجرور، نحو قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (94) سورة الحجر ونحو قوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (18) سورة الأنبياء.
هذا وقد تكون قرينةُ التبعية غيرَ ذلك، نحو قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (52) سورة يــس، إذ القرينةُ في هذه الآية، كونُه من كلام الموتى، مع قوله: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ).
و من هذه الأمثلة السابقه: يتبينُ أنه لا يُشترط أن يكون للمشبَّه حرفٌ موضوع ٌله يدلُّ عليه.
[1]- جواهر البلاغة للهاشمي - (ج 1 / ص 13).
[2]- الشعر والشعراء - (ج 1 / ص 36) وجمهرة أشعار العرب - (ج 1 / ص 33) وخزانة الأدب - (ج 2 / ص 449) ونهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 2 / ص 282) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 21 / ص 149) وتاج العروس - (ج 1 / ص 6063).
[3]- تاريخ الأدب الأندلسي (عصر الطوائف والمرابطين) - (ج 1 / ص 95) وقواعد الشعر - (ج 1 / ص 3) ونقد الشعر - (ج 1 / ص 32) ولباب الآداب للثعالبي - (ج 1 / ص 42) والحماسة البصرية - (ج 1 / ص 95) والمفضليات - (ج 1 / ص 78) وجمهرة أشعار العرب - (ج 1 / ص 67).
[4]- الإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 100) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 188).
[5]- نهاية الأرب في فنون الأدب - (ج 2 / ص 282) وتراجم شعراء موقع أدب - (ج 11 / ص 289) والإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 96) ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص - (ج 1 / ص 180).
[6]- زهر الأكم في الأمثال و الحكم - (ج 1 / ص 59) ولسان العرب - (ج 15 / ص 364) والمفصل في صنعة الإعراب - (ج 1 / ص 18) ومفتاح العلوم - (ج 1 / ص 57) ومفتاح العلوم - (ج 1 / ص 57).
[7]- الإيضاح في علوم البلاغة - (ج 1 / ص 96) ومفتاح العلوم - (ج 1 / ص 169).
التسميات
علم البلاغة